مسائل تتعلق بقوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى)
ذكر الشنقيطي مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة: المسألة الأولى: اعلم أن السحر يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه، ولطف ودق، ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر.
المسألة الثانية: اعلم أن الفخر الرازي قسم السحر إلى ثمانية أنواع: النوع الأول: سحر الكلدانيين والكسدائيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم، وراداً عليهم.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ومعلوم بأن هذا النوع من السحر كفر بلا خلاف؛ لأنهم كانوا يتقربون فيه إلى الكواكب كما يتقرب المسلمون إلى الله، ويرجون الخير من الكواكب، ويخافون الشر من قبلها، كما يرجو المسلمون ربهم ويخافونه، فهم كفرة يتقربون إلى الكواكب في سحرهم بالكفر البواح.
النوع الثاني من السحر: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، وفصل في ذلك.
النوع الثالث: من أنواع السحر: الاستعانة بالأرواح.
النوع الرابع من أنواع السحر: التخيلات والأخذ بالعيون.
النوع الخامس: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضربت بالبوق من غير أن يمسه أحد! ومنها: الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى أنهم يصورونها ضاحكة وباكية، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور، وبين ضحك الخجل، وضحك الشامت، فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل.
قال ابن كثير بعد ذكر كلام الرازي: ومن هذا القبيل حيل النصارى.
يعني: من أنواع السحر الذي يكون فيه نوع من الحيل وخفة اليد ونحو هؤلاء الناس أصحاب الألاعيب، وليس له في الحقيقة واقع، والرازي يرى أن سحر سحرة فرعون هو من هذا النوع الذي هو تخييل ((يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى))؛ لأن السحرة جعلوا الزئبق على الحبال والعصي، فألقوه في وقت الضحى، فجاءت الشمس على هذا الزئبق وتمدد، فبالتالي الزئبق حرك هذه العصي وظنوا أنها حركة طبيعية.
يقول ابن كثير: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، يعني: النصارى -أضلهم الله- خبراء في هذا الدجل، وهذا النوع من الدجل هو أقصى ما يستطيعون أن يموهوا به على أتباعهم ممن أظلم الله قلوبهم بالشرك والتثليث؛ لأنهم لا عقول لهم، فإنهم يسهل جداً أن يؤسروا بمثل هذه الأشياء التي نذكرها، وكنت قرأت يوماً وأنا عابر شعاراً يتعلق بالتمثال المزعوم لـ مريم عليها السلام، ويقولون: هناك حركات معينة تلتمس من هذا التمثال! وقد تعودنا على سماع هذا الكلام، وهم لا يملكون إلا هذا الدجل، وليس هناك ما يؤيدون به باطلهم سوى الدجل، وهذه الألاعيب، فالقوم لهم خبرة عريقة في مجال الدجل والخداع وأسر الجهلة بمثل هذا الكلام.
يقول ابن كثير: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببيت المقدس.
وهكذا ابن كثير وغيره من العلماء إذا ذكروا كنيسة القيامة يسمونها كنيسة القمامة، استهزاء بها؛ أولاً: لأننا لا نعترف بما يسمونه قيامة؛ لأن معنى كلامهم أن المسيح -والعياذ بالله كما كذبوا- صلب، ودفن ثلاثة أيام، ثم قام من بين الأموات في هذا اليوم الثالث وصعد إلى السماء، فهذا لا شك أنه تكذيب بالقرآن الكريم، وكفر بواح صراح، فـ المسيح عليه السلام رفع، ولم يتمكن منه اليهود لعنهم الله، وإنما رفع إلى السماء، والنصارى عندهم كنيسة يسمونها (القيامة) ويحتفلون بالعيد فيها.
ويحصل ممن ينتسبون إلى الإسلام وهم غارقون في الجهل ومنافاة التوحيد، أن بعضهم يهنئ النصارى بعيد المسيح (المجيد)، وهذا قد يخرج من الإسلام والملة إذا كان معتقداً لذلك، فمعناها أنه يكذب القرآن، وهم يقيمون هذا العيد في كنيسة القيامة، ويبدو أن النصارى سموها بهذا الاسم للتعظيم، وزرع الهيبة في النفوس لباطلهم.
وفي هذه الكنيسة التي في بيت المقدس يحتالون في إدخال النار خفية إليها، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم، وأما الخواص فهم يعرفون أنها حيلة من حيلهم التي يستعينون بها، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغًا لهم! وقد حصل منذ سنوات خرافات منها: الزعم أن مريم عليها السلام ظهرت في كنيسة الزيتون في القاهرة، ووقعت ضجة كبيرة في هذا الأمر، حتى فتن بهذا الأمر الكثير من الطغام من المسلمين الجهال إلى آخر هذا الدجل.
فالنصارى لهم خبرة عظيمة جداً في هذا المجال، والآن بواسطة التكنولوجيا الحديثة سهل جداً إيهام الناس أن نوراً يظهر وسط الظلام، ولكن هل مريم عليها السلام تظهر لهؤلاء المشركين الذين يعبدونها من دون الله، والذين يشتمون ويسبون الله؟! إن الشياطين تتلاعب بعقولهم، فخوارق العادات بحد ذاتها لا تدل على إيمان أو صلاح، وخوارق العادات لا تدل على أن هذا هو حق، وإلا كان سحرة الهند وأصحاب حركات الخفة على حق.
خوارق العادات لابد فيها من شرطين: أولاً: أن تكون غير مخالفة للشرع.
ثانياً: أن ينظر في سيرة الرجل الذي كانت له هذه الخوارق، فإن كان رجلاً صالحاً مستقيماً على السنة، وعلى الشرع، مجانباً للكبائر والمعاصي، وكانت الكرامة لا تتنافى مع الشريعة، ففي هذه الحالة نسميها كرامة.
أما خرق العادة في حد ذاته فقد يحصل بأسباب كثيرة، منها: السحر والتخييل، ونحو هذه الأشياء التي يفعلها صاحب خفة اليد.
وأما النصارى، فحتى لو حصلت لهم هذه، وفعلوا ما فعلوا، فمجرد أن الإنسان يجوز أن يكون دينهم مرضياً عنه أو فيه شيء من الحق؛ فإنه يخرج من الإسلام، ومن ذلك أن يجوز أن مريم موالية لهؤلاء المشركين الذين يعبدونها، ويعبدون المسيح من دون الله.
فهل مريم عليها السلام تكون مع هؤلاء أو تؤيدهم؟! هذا مستحيل.
فالشاهد: أن هذه الأشياء لا يضحك بها إلا على بسطاء العقول.
يقول: وأما الخواص منهم فمعترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغاً لهم، وفيهم شبه من الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله ﷺ فيهم: (من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عني ولا تكذبوا عَلَيّ؛ فإنه من يكذب عليّ يلج النار).
ثم ذكر الرازي حكاية عن بعض الرهبان، وهي: أنه سمع صوت طائر حزين الصوت، ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له، فتذهب في وكره من ثمر الزيتون، ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف، فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيته، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة، فسمع صوتها كل طائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه؟ يعني: النصارى يرون ذلك منه وهو في الصومعة، فهو عمل هذه الحيلة كي يأتي بهم، فيرون الزيتون، فيعتبرون أن هذا من كراماته على الله؛ ففتنهم بذلك، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب ذلك القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
من ذلك أيضاً: أن بعضهم كان يعمل تمثالاً ويعمل فيه تجويف؛ بحيث إنه في وقت معين يوهم الناس أن التمثال يدر لبناً في وقت معين، وقد جعل أنبوباً موصلاً، ويصب اللبن من فوق وينزل، ويوهم الناس أنه يدر لبناً! وهذه الأشياء لا تزلزل قلب المؤمن أبداً؛ لأن الإنسان دائماً عندما يذكر خوارق العادات عليه أن يتذكر المسيح الدجال، ويقارن ما يفعله هؤلاء بما سيفعله المسيح الدجال، فهل يساوون شيئاً بالنسبة لما سيفعله المسيح الدجال؟! لا، فهو سيفعل أشياء مذهلة، ويدعي الألوهية، ويفتن الناس بهذه الخوارق وهذه الأفعال، فهل هذا دليل على أنه على حق؟!
ﷺ لا، إذاً: هؤلاء الناس سيسهل على المسيح الدجال أن يقنعهم، ولا شك أن هذا منهج غير صحيح في البحث عن الحق، فالبحث عن الحق لا يكون عن طريق هذه الأشياء.
ثم قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وعلوم الشر كثيرة، وقصدنا بذكر ما ذكرنا منها التنبيه على خستها وقبحها شرعاً، وأن منها ما هو كفر بواح، ومنها ما يؤدي إلى كفر، وأقل درجاتها التحريم الشديد.
المسألة الثالثة: اختلف العلماء فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال بعضهم: إنه يكفر بذلك، وهو قول جمهور العلماء، منهم: مالك وأبو حنيفة وأصحاب أحمد وغيرهم، وعن أحمد ما يقتضي عدم كفره، وعن الشافعي: أنه إذا تعلم السحر قيل له: صف لنا سحرك؛ فإن وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب، وأنها تفعل ما يطلب منها؛ فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، واعتقد إباحته فهو كافر أيضاً وإلا فلا، وأقوال أهل العلم في ذلك كثيرة معروفة.
قال الشنقيطي: التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل: فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر؛ فهو كفر بلا نزاع، وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر.