تفسير قوله تعالى: (قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: ٩٤].
قال الشنقيطي: وذلك يدل على أنه لشدة غضبه أراد أن يمسك برأسه ولحيته، وقد بين تعالى في سورة الأعراف أنه أخذ برأسه يجره إليه، وذلك في قوله: ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ [الأعراف: ١٥٠]، وقوله: ((وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي))، هذا من بقية كلام هارون، أي: ((خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ))، وأن تقول لي: لم ترقب قولي! أي: لم تعمل بوصيتي، وتمتثل أمري.
ثم يذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى فائدة من هذه الآية، وهي: أن هذه الآية تعتبر من المواضع الواضحة في القرآن الكريم في التعرض للحية: ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)).
كان العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب كتاب: فتح المنعم سئل مرة سؤالاً حيث يريد السائل دليلاً من القرآن على مشروعية إعفاء اللحية، ففتح الله عليه بهذه الآية، وهو دليل من القرآن الكريم مباشر وهذا المعنى يوضحه الشنقيطي في هذا التنبيه فيقول: وهذه الآية الكريمة بضميمة آية الأنعام إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية.
يعني: من سأل فقال: أين الدليل القرآني على وجوب إعفاء اللحية من القرآن؟ فنقول: أولاً: لا يلزم للشيء أن يكون واجباً أن يثبت فقط بالقرآن، فمحجية السنة أمر لا شك فيه، لكن بغض النظر عن هذا نحاول الإجابة عن
Q يقول: يمكن أن يستدل بهذه الآية، لكن بشرط أن نفهمها في ضوء آية سورة الأنعام، وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأنعام: ٨٤] ثم إنه تبارك وتعالى بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين -الذين منهم؟ هارون، قال عز وجل مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم-: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠]، فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا ﷺ بالاقتداء بهم، وأمره ﷺ بذلك أمر لنا؛ لأن أمر القدوة أمر لأتباعه، أي: الأمر الموجه للقدوة أمر لأتباعه.
قال: وقد قدمنا هناك أنه ثبت في صحيح البخاري أن مجاهداً سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من أين أخذت السجدة في سورة ص؟ قال: أو ما تقرأ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ﴾ [الأنعام: ٨٤] ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠]؟ فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولفظه في البخاري عن العوام قال: سألت مجاهداً عن سجدة ص فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟ فقال: (أو ما تقرأ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ﴾ [الأنعام: ٨٤] ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠]؟ فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: اقتداء بداود حينما سجد في هذا الموطن في سورة ص.
يقول الشنقيطي رحمه الله: فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا ﷺ بالاقتداء بهم في سورة الأنعام، وعلمت أن أمره أمر لنا؛ لأن لنا فيهم أسوةً حسنة، وعلمت أن هارون كان موفراً شعر لحيته بدليل قوله لأخيه: ((تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي))؛ لأنه لو كان حالقاً لما أراد أخوه الأخذ بلحيته؛ تبين لك من ذلك بإيضاح أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن الكريم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم.
والعجب من الذين مسخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى وهو اللحية! وقد كان ﷺ كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها؛ ليس فيهم حالق، نرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
ثم يقول الشنقيطي: أما الأحاديث النبوية الدالة على إعفاء اللحية، فلسنا بحاجة إلى ذكرها؛ لشهرتها بين الناس؛ وكثرة الرسائل المؤلفة في ذلك، وقصدنا هنا أن نبين دليل ذلك من القرآن.
هل يستطيع أحد أن يناقش هذا الاستدلال؟ ومتى يصح الاستدلال بالآية على الوجوب؟ الآية بمفردها تدل على المشروعية، وهي تدل على الوجوب إذا أضفنا في الاستدلال بها أن هارون فعل ذلك على سبيل الوجوب، فما دام أن هارون فعل ذلك على سبيل الوجوب، وأمر نبينا أن يقتدي به في ذلك؛ فحينئذٍ يصبح هذا دليل الوجوب، لكن الفعل في حد ذاته يحتمل الوجوب ويحتمل النسخ أو الاستحباب، وهذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري في هذا الموضع.
على كل الأحوال الحكم ثابت بالوجوب، ونحن ذكرنا هذا للاستزادة، فراجعوا في فتح الباري.
ثم قال الشنقيطي: وإنما قال هارون لأخيه ((يَبْنَؤُمَّ))؛ لأن قرابة الأم أشد عطفاً وحناناً من قرابة الأب.
وأصله.
يا ابن أمي بالإضافة إلى ياء المتكلم، ويطرد حذف الياء وإبدالها ألفاً، وحذف الألف المبدلة منها كما هنا.