تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم)
ذكر تبارك وتعالى نعمه على بني إسرائيل ومننه الكبرى، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: ٨٠ - ٨٢].
قوله تعالى: ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ))، وهو فرعون وقومه، فقد كانوا: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩]، وذلك بأن أقر أعينكم منهم بإغراقهم وأنتم تنظرون.
((قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ)) أي: لمناجاة موسى وإنزال التوراة عليهم، واليهود السامرية يعتقدون أن هذا الجبل في نابلس، ويسمونه جبل الطور، ولهم عيد سنوي يقعدون فيه، ويقربون فيه القرابين، والمعروف أن هذا الجبل هو جبل معروف في طور سيناء، والله تعالى أعلم.
وأصل هذه المواعدة كانت لموسى عليه السلام، وبعد ذلك خاطب الله سبحانه وتعالى بها بني إسرائيل في سياق الامتنان عليهم بهذه المعاتبة ﴿وَواعَدْنَاكُمْ﴾، مع أن الأصل أنه واعد موسى عليه السلام، فيقول الزمخشري: إنما عدى المواعدة إليهم؛ لأنها لابستهم واتصلت بهم حيث كانت لنبيهم ونقبائهم، وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه.
((جَانِبَ)) مفعول فيه أو مفعول به على الاتساع، أو بتقدير مضاف، يعني: وواعدناكم إذ كان جانب الطور الأيمن: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)) * ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) يعني: من بدائله؛ فإن المن كالعسل، والسلوى من الطيور الجيد لحمها.
((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ)) أي: فيما رزقناكم بأن تتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به.
((فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)) أي: فقد هلك.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ)): الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ [الأعراف: ١٤٢]، وقوله: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [البقرة: ٥١]، وقوله: ﴿أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً﴾ [طه: ٨٦]، وهو الوعد بإنزال التوراة.
وقوله هنا: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى))، قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع من القرآن كقوله في البقرة: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [البقرة: ٥٧]، وقوله في الأعراف: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [الأعراف: ١٦٠].
وأكثر العلماء على أن المن هو الترنجبين، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض.
ويسمونه الآن في العراق وتركيا ماء السماء، يجمع من فوق أوراق الأشجار في الصباح، وهو مثل البودرة، ثم يجمع ويتفننون في إضافة المواد عليه.
يقول: وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى، ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض، والسلوى طائر يشبه السُّمانى، وقيل: هو السماني، وهذا قول الجمهور في المن والسلوى، وقيل: السلوى العسل، وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل.
والتحقيق: أن السلوى يطلق على العسل لغة، ومنه قول خالد بن زهير الهذلي: وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها يعني: ألذ من العسل إذا ما نستخرجها؛ لأن النشور استخراج العسل، قال مؤرج بن عمر السدوسي: إطلاق السلوى على العسل لغة كناية، سمي به لأنه يسلي، قاله القرطبي؛ إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية، يعني: ليس المراد في الآية العسل، وإن كان لغة يطلق السلوى على العسل.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: والأظهر عندي في المن: أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كسب ولا تعب، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله به على بني إسرائيل في التيه، ويشمل غير ذلك مما يماثله، ويدل على هذا قوله ﷺ الثابت في الصحيحين: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) يعني: مما امتن الله به على عباده، وكثير من الناس يقولون: إن الكمأة هي النبات المشهور الآن بعش الغراب، وفوائدها الصحية كثيرة جداً.
قوله عليه الصلاة والسلام: (الكمأة من المن) يعني: مما امتن الله به على عباده.
فمنه الكمأة، ومنه أيضاً المن الذي هو العسل، وماؤها شفاء للعين.
يقول: والأظهر عندي في السلوى: أنه طائر، سواء قلنا: إنه السمانى أو طائر يشبهه؛ لإطلاق جمهور العلماء من السلف والخلف على ذلك، مع أن السلوى يطلق لغة على العسل كما بينا.
وقوله في آية طه هذه: ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) أي: من المن والسلوى، والأمر فيه للإباحة والامتنان.
وقوله تعالى: ((كُلُوا)) يقدر قبلها: وقلنا لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم، ((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ))، الضمير المجرور في قوله تعالى: ((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ)) راجع إلى الموصول الذي هو (ما) في قوله: ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)).
((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ)) أي: لا تطغوا فيما رزقناكم.
ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم، وهو: أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي، أو يستعينوا به على المعصية، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه، ونحو ذلك، فهذا كله من الطغيان فيما رزقنا الله، وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا؛ لأن الفاء في قوله تعالى: ((فَيَحِلَّ)) فاء سببية والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها؛ لأنه بعد النهي وهو طلب محض.
وقرأ الكسائي هذا الحرف ((فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي)) بضم الحاء (فيحُل).
((وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)) أي: هلك وصار إلى الهاوية، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك، ومنه قول الشاعر: هوى من رأس مرقبة ففتت تحتها كبده ويقولون: هوت أمه، أي: سقط سقوطاً لا نهوض بعده.
واعلم أن الغضب صفة وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه إذا انتهكت حرماته، وتظهر آثارها في المغضوب عليهم؛ نعوذ بالله من غضبه جل وعلا! ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت، فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه، ولا نكذب بشيء من ذلك، مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة الأعراف.
قرأ حمزة والكسائي هذه الآية: (قد أنجيتكم من عدوكم وواعدتكم جانب الطور الأيمن) بتاء المتكلم فيهما، وقرأه الباقون (وواعدناكم) (وأنجيناكم) بالنون الدالة على العظمة.
قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: ٨٢] أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق ((وَعَمِلَ صَالِحاً)) بجوارحه ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: استقام وثبت على الهدى المذكور، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح، ونحوه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت: ٣٠] وفي الآية ترغيب لمن وقع في وحشة الطغيان ببيان المخرج له كي لا ييئس: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾.
وقوله: ((إِنِّي لَغَفَّارٌ)) أي: كثير المغفرة لمن تاب إليه من معاصيه وكفره، وآمن به وعمل صالحاً ثم اهتدى، وقد أوضح الله هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]، وقال في حق الذين سبوه وشتموه وقالوا: إنه ثالث ثلاثة، مرغباً لهم في التوبة عن ذلك الشرك: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٧٤]، وقال أيضاً: ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ [الزمر: ٥٣]، يعني: لمن تاب ﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه﴾ [الزمر: ٥٣ - ٥٤]، إلى غير ذلك من الآيات، وقد قدمنا معنى التوبة والعمل الصالح.


الصفحة التالية
Icon