تفسير قوله تعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً)
قال تعالى: ﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾ [طه: ٨٦].
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفاً على قومه من أجل عبادتهم العجل، فقوله: ((أَسِفاً)) أي: شديد الغضب، فالأسف هنا شدة الغضب، وعلى هذا فقوله: ((غَضْبَانَ أَسِفاً)) أي: غضبان شديد الغضب، ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن الكريم قوله تعالى في الزخرف: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الزخرف: ٥٥]، لما آسفونا أي: لما أغضبونا، فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم.
قال الشنقيطي: وقوله: ((غَضْبَانَ أَسِفاً)) حالان، وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحداً، كما أشار له في الخلاصة بقوله: والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد يعني: ممكن الحال يكون كلمة وممكن أن يتعدد، فهذا معنى قول صاحب الخلاصة.
وما ذكره جل وعلا في آية (طه) من كون موسى رجع إلى قومه: (غضبان أسفاً) ذكره في غير هذا الموضع، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور، كقوله في سورة الأعراف: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي﴾ [الأعراف: ١٥٠]، وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، قال عز وجل في الأعراف: ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ [الأعراف: ١٥٠] وقال في (طه) مشيراً لأخذه برأس أخيه: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي﴾ [طه: ٩٤]، وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان؛ لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله عز وجل: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ﴾، وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه، ومع ذلك لم يبلغ الغضب بموسى عليه السلام يلقي الألواح، لكنه لما عاين -بعينه- قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثراً لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك، فألقى الألواح حتى تكسرت وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تبارك وتعالى.
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح).
وهذا معنى الحكمة المشهورة: ليس الخبر كالمعاينة.
ويمكن استنباط نفس هذه الحكمة من القرآن الكريم من موضع آخر: ﴿لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً﴾ [الكهف: ١٨]، فالنبي عليه السلام وصف له حالهم في القرآن لكنه لو رآهم لولى فراراً وامتلئ رعباً، فالله يقول: ((لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ)) أي: لو رأيتهم ونظرت إليهم بعينك لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً.
وقوله تعالى: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً)) قال الشنقيطي: أظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن: أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتاباً فيه كل ما يحتاجون من خير الدنيا والآخرة، وهذا الوعد هو المذكور هنا في قوله: ((وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ)) يعني: كي ينزل على موسى عليه السلام التوراة، وقد كتبها الله له بيده، وهي ألواح التوراة، فهذا هو الوعد الحسن.
قال: ﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ﴾، الاستفهام هنا للإنكار، يعني: لم يطل العهد، وهذا هو السبب مع أني لم أتأخر عنكم كثيراً، أي: لم يطل عليكم العهد، كما يقال في المثل: وما بالعهد من قدم؛ لأن طول العهد مظنة للنسيان والعهد قريب لم يطل، فكيف نسيتم؟ ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي))، هنا قال بعض العلماء: (أم) هنا هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة ﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ﴾ بل ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ))، والمعنى: بل أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم، فكأنهم أرادوا الغضب لما عملوا السبب الذي يجلب لهم غضب الله سبحانه وتعالى وهو الكفر.
ومعنى إرادتهم حلول الغضب: أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم؛ فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه، وهو الكفر بعبادة العجل.
وقوله: (فأخلفتم موعدي) كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى؛ فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى، فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره.
((قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا))، قرأه نافع وعاصم (بملكنا) بفتح الميم، وقرأه حمزة والكسائي بضم الميم، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بكسر الميم، يعني: فيها ثلاث حركات يقول: والمعنى على جميع القراءات: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك، وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده، وهو اعتبار بارد ساقط كما ترى، يعني: هذا العذر السخيف ينطبق عليه قول القائل: عذر أقبح من ذنب، يعني: ما كان بأيدينا لكن غلبنا السامري وكادنا وغلبنا، ولقد صدق من قال: إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن اطراح العذر خير من العذر الذنب إن كان بغير عذر مقبول، فالعذر ساذج.
وهنا يذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى فائدة لغوية، يقول: كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ (لم) إذا تقدمتها همزة استفهام فلها وجهان معروفان عند العلماء: الأول: أن مضارعته تنقلب ماضوية، ونفيه ينقلب إثباتاً، فيصير قوله: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً)) بمعنى وعدكم.
نلاحظ هنا الفعل (يعدكم) فعل مضارع سبقته (لم) الجازمة، وسبقها همزة الاستفهام، فإذاً: فعل مضارع مجزوم بلم تقدمتها همزة استفهام، فالقول الأول: أن المضارع ينقلب ماضياً، ونفيه ينقلب إثباتاً، فيصير قوله: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ)) تساوي: وعدكم، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١] تساوي: شرحنا لك صدرك، وقوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ [البلد: ٨] تساوي: جعلنا له عينين، ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر؛ لأن لم حرف يقلب المضارع إلى معنى الماضي كما هو معروف، ووجه انقلاب النفي إثباتاً: أن الهمزة إنكارية، فهي مضمنة معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في لم، أي: تنفي النفي، ونفي النفي إثبات فيئول إلى معنى الإثبات.
هذا هو الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن الاستفهام في ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر، فيقول: بلى.
يعني: هذه الصيغة تأتي من أجل أن يقر المخاطب، يقول: ألم نفعل كذا؟ تقول: بلى.
لكي تثبت ذلك.
وعليه فالمراد من قوله: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً)) حملهم على أن يقروا بذلك، فيقولوا: بلى قد وعدنا ربنا وعداً حسناً، ونظير هذا من كلام العرب قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح فإذا عرفت أن قوله هنا: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا) قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ))؛ فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا، وكذلك بعض فعله، ولكن بينه في غير هذا الموضع كقوله في الأعراف في القصة بعينها: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٥٠]، وبين بعض ما فعل بقوله في الأعراف: ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ َ﴾ [الأعراف: ١٥٠]، وقد أشار إلى هذا في (طه) في قوله: ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)).


الصفحة التالية
Icon