تفسير قوله تعالى: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً)
أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل مسفهاً لهم فيما أقدموا عليه مما لا يستتر بطلانه على أحد، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا﴾ [طه: ٨٩].
((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ)) أي: العجل، ((إِلَيْهِمْ قَوْلًا)) أي: لا يرد لهم جواباً، ((وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا)) أي: دفع ضر، ولا جلب نفع، فكيف يتخذ إلهاً؟ قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا)): قال بعض العلماء: والأوزار معناها: الأثقال، قال بعض العلماء: معناها: الآثام، ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم.
ووجه الثاني: أنها آثام وتبعات؛ لأنهم كانوا مع القبط في حكم المستأمنين في دار الحرب، وليس للمستأمن أن يأخذ أمان الحربي؛ ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم، والتعليل الأخير أقوى؛ لأن من خصائص هذه الشريعة المحمدية ما ذكره النبي ﷺ في قوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فهؤلاء حملوا معهم حلي القبط، ولم تكن تحل لهم في شريعتهم غنائم، فكأنهم لما حملوها حملوا معها أوزاراً وآثاماً لأنهم مستأمنون، وبالتالي لا يجوز لهم أن يأخذوا أموالهم، فهذا التعليل أقوى من التعليل الأول.
((مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ)) المراد بالزينة: الحلي، كما يوضحه قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ﴾ [الأعراف: ١٤٨]، ((فَقَذَفْنَاهَا)) أي: ألقيناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة؛ لأن السامري حفر حفرة وأمرهم أن يقذفوا هذه الحلي في داخل الحفرة، وبعض المفسرين يقول: فعلوا ذلك لأن الحلي لما كانت متناثرة كان يشق عليهم حملها، وهم أرادوا أن يقبروها في كتلة واحدة حتى يسهل حملها.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وأظهر الأقوال عندي في ذلك: هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة؛ لأن ذلك أسهل لحفظه إلى أن يرى نبي الله موسى فيه رأيه.
والسامري لما أمرهم بحفر حفرة، وأمرهم أن يضعوا فيها الحلي، كان يريد تدبير خطة لم يطلعهم عليها، وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات، وكان على فرس؛ أخذ السامري تراباً مسه حافر تلك الفرس، ويزعمون في هذه القصة: أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات، أي: لاحظ أن الموضع الذي أصابه حافر الفرس ينبت فيه نبات، فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة، فأخذ تلك القبضة من التراب من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام واحتفظ بها، فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب، وجعلوه فيها، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكور، وقال له: كن عجلاً جسداً له خوار، فجعله الله عجلاً جسداً له خوار، يعني: كأن الله أقدره على هذا الفعل ابتلاءً وامتحاناً وفتنة، كما يقدر المسيح الدجال على الخوارق فتنةً للناس، فقال لهم: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى! كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾ [طه: ٩٥ - ٩٦] يعني: حينما لاحظت وقوع الحافر في الأرض قبضت قبضة مما وقع عليه حافر الفرس واحتفظت بها: ﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ [طه: ٩٦].
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمُِ﴾ هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد، ﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ﴾ فهذا يدل على أن ذلك الاعتراف كان من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم، ولا يوجد احتمال أنه من غيرهم.
إذاً: ﴿وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٧ - ٨٨] أي: نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر! قال ابن عباس في حديث الفتون وهو قول مجاهد، وعن ابن عباس أيضاً من طريق عكرمة (فنسي) أي: نسي أن يذكركم به، وعن ابن عباس أيضاً (فنسي) أي: السامري نسي ما كان عليه من الإسلام وصار كافراً بادعاء ألوهية العجل وعبادته.
إذاً: (نسي) الفاعل هنا ضمير يعود إلى السامري، أي: نسي السامري الإسلام الذي كان عليه.