معنى قوله تعالى: (لا نسألك رزقاً نحن نرزقك)
الأمر بالصلاة إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها وهو الله سبحانه وتعالى نفع ما، لتعاليه وتنزهه، ولذلك قال: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) أي: لا نسألك مالاً، بل نكلفك عملاً ببدنك نؤتيك عليه أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً، ومعنى ((نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) أي: نحن نعطيك المال ونكسبك، ولا نسألك هو، وهذا قاله ابن جرير رحمه الله تعالى.
وقال أبو مسلم: المعنى: أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج، فإن شأنكم معشر البشر إذا كان للرجل منكم عبيد فإنه يترك هؤلاء العبيد يعملون ويكتسبون المال، ويعودون بهذا المال على سيدهم، فهو ينتفع بهم؛ لأن المال الذي في يد العبد ملك لسيده في الحقيقة، فالله تبارك وتعالى يبين أنه ما يريد منهم ولا منه عليه الصلاة والسلام سوى العبادة، ولا يريد من العباد أن يرزقونه، كما تريد السادة من العبيد الخراج، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: ٥٦ - ٥٨]، فالله سبحانه وتعالى غني عن العالمين قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: ١٥].
وقال بعض المفسرين: معنى الآية: أقبل مع أهلك على الصلاة، واستعينوا بها على خصاصتكم، ولا تهتموا بأمر الرزق والمعشية.
وهذه الآية من أعظم ما يرد به على قول بعض المفرطين: العمل عبادة، وهي كلمة صحيحة إذا حملت على أحسن الوجوه، لكنهم قد يتركون الصلاة ويقولون هذه الكلمة! مرة في مجلس الشعب دخل عليهم وقت المغرب، فقام رجل من الدعاة الصالحين الموجودين، فقال: الصلاة يا رئيس! فقال له: نحن في عبادة! وهذا نسمعه الآن في كل مكان، تنصح إنساناً وتقول له: أترك ما في يدك واذهب إلى الصلاة، فيقول: العمل عبادة، فنقول: العمل عبادة، والصلاة أليست عبادة؟! ثم إن العمل وقته متسع لكن الصلاة وقتها يضيق، خاصة صلاة الفجر أو العصر، الرسول ﷺ قال: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) يعني: كأن مصيبة أصابته ضاع فيها كل أهله وكل ماله، وأصبح بلا أهل ولا مال، وفي حديث آخر: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله)، فترك الصلاة من كبائر الذنوب العظيمة، فكيف يقال: العمل عبادة، إذا كان هذا العمل يعطل عن الصلاة؟! المفروض أن الناس ينظمون مواعيدهم وأعمالهم بحيث لا تعارض أعمالهم مواعيد الصلاة، فهو إذا طرأت عليه الحاجة البشرية فلا شك أنه يسارع ويبادر لقضاء هذه الحاجة، مثل الطعام، فلماذا لا يبقى في العمل ويقول: العمل عبادة، ويترك الطعام والشراب؟! لماذا عند ذكر الله وعند فرائض الله يقول: العمل عبادة؟! العمل الذي هو عبادة هو العمل الذي لا يلهي عن طاعة الله سبحانه وتعالى، والصلاة هي أشرف الأعمال على الإطلاق، قال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)، وهذا القول من تلبيس الشيطان ولعبه بعقول هؤلاء الناس، يضيع الصلاة ويقول: العمل عبادة، يترك العبادة بحجة العمل، فهذه عبادة للشيطان في الحقيقة، وليست عبادة للرحمن جل وعلا.
هذه الآية: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ)) لابد لكل إنسان دائماً أن يتذكرها، وأن يكرر الأمر لأهله بالصلاة، ففي كل وقت صلاة يأمرهم بها، حتى لو كان يتوقع أنهم سيبادرون إلى الصلاة؛ امتثالاً لهذه الآية، لابد أن الإنسان يعود نفسه، ولي الأمر هو المسئول الأول أن يأمر أولاده بالصلاة قبل ذهابه لصلاة الجماعة، فيأمرهم بالصلاة، ويقول لهم: بادروا بالصلاة، لا تؤخروا الصلاة، حضرت الصلاة، فيذكرهم باستمرار بحضور وقت الصلاة، ويأمرهم بذلك، فينبغي أن يكون هذا سلوك ثابت في كل بيت مسلم، فالأصل أن الذي يقود دفة السفينة يأمرهم دائماً بالصلاة، والصلاة -بلا شك- أولى من متابعة الواجبات المدرسية والمذاكرة وغير ذلك من الأمور التي هي دون الصلاة بكثير، فلابد أن يكون من وظائف ولي الأمر التي لا يخل بها أبداً الأمر بالصلاة امتثالاً لهذه الآية: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)).
أيضاً في هذه الآية بيان أن الصلاة هي السبب في سعة الرزق، فمن أراد سعة الرزق فلا يترك الصلاة اشتغالاً بالرزق، والحقيقة أن ما عند الله ينال بطاعته ولا ينال بمعصيته، فالرزق عند الله كما قال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: ٢٢]، فإذا كان الرزق من عند الله فهل نطلب ما عند الله بمعصية الله أم بطاعة الله؟ نطلب الرزق الذي عند الله بطاعته، فإذا أطعنا الله يبارك لنا في هذا الرزق، والآية تشير إلى أن الصلاة سبب في سعة الرزق، ولا يمكن أن تكون الصلاة عائقة عن الرزق؛ لأنه عقب قوله: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) بقوله: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) فالذي يرزقنا وضمن لنا أرزاقنا هو الذي أمرنا بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها.
فالإنسان إذا نزلت به خصاصة أو حاجة أو فقر، فمن أعظم أسباب سعة الرزق أن يبادر إلى الصلاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصابته خصاصة فزع إلى الصلاة، وكان يفزع إلى الصلاة إذا أصابه أي مكروه، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ [البقرة: ٤٥]، يقول بعض المفسرين: معنى الآية: أقبل مع أهلك على الصلاة، واستعينوا بها على خصاصتكم، يعني: على حاجتكم، فلا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، مضمون، ونحن رازقوك: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ))، وهذا المعنى تدل عليه الآية مفهوماً.
وليس في الآية حث على القعود عن الكسب، وليست مستنداً للكسالى القابعين في المساجد عن السعي المأمور به، فبعض الناس يقعد عن الكسب والعمل، ويقول: نصلي ونمكث في المساجد ونترك العمل والوظيفة والسعي وراء الرزق الحلال، فهل استدلالهم بهذه الآية يكون في محله؟ لا، فليس الأمر كما يقول بعضهم: جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين فالله سبحانه وتعالى أمرك بالسعي في طلب الرزق كما قال: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: ١٥]، وقال في سورة الجمعة: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ١٠] يعني: بعد أن تؤدي الواجب افعل لطلب الرزق ما شئت، لكن المهم ألا تضيع الصلاة بحجة الرزق، والدليل أن الله قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: ٩]، وهذا أمر صريح بترك ما يسميه بعضهم الآن: العمل عبادة، فالله يأمرك بترك هذه العبادة وقت الصلاة.
ومن العجيب أن يطلق على طلب الدنيا عبادة بهذا المعنى! بل هذا كله من عبادة الدنيا، فالدنيا استعبدته في الحقيقة، فهو عابد للدنيا، فالعمل الذي هو عبادة هو الذي لا يشغلك عن أشرف العبادات، والكسب الحلال والسعي وراء الرزق عبادة يثاب عليها الإنسان، لكن لا ينبغي أن يغتر بمن يقيم التعارض بين الأمرين، قال تعالى: ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ﴾ [النور: ٣٧]، إلى آخر الآية في سورة النور؛ إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين، يعني: يحافظون على الصلاة، ويعمرون المساجد بصلاة الجماعة، وفي نفس الوقت يسعون إلى الرزق الحلال؛ ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [النور: ٣٦] * ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ﴾ [النور: ٣٧]، وقال تبارك وتعالى ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: ٢٠١].
((وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)) أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل لأهل التقوى والخشية من الله دون من لا يخاف منه عقاباً ولا يرجو منه ثواباً، كما قال في الآية الأخرى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣].


الصفحة التالية
Icon