والله تعالى يعد الرزق نعمة، وإذا أنفق في الحلال وكسب من الحلال كان من القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا يتقرب إليه سبحانه بكسب يكون طريقه ليس بحلال خالص. ويروى أن رجلا يكسب من الغناء والضرب على الدف فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ أرانِي لَا أُرْزَقُ إلا مِنْ دُفِّي بِكَفِّي فأذَنْ لِي بالغِنَاءِ فِى غَيْرِ فَاحِشَة، فقال له رسول الله - ﷺ -: " لا آذَنُ لَكَ وَلا كَرَامَةَ ولا نُعْمَةَ، كَذَبْتَ أيْ عَدُوَّ اللَّه، وَاللَّهِ لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ تعالَى حلالا طيبًا، فاخترْتَ ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكانَ مَا أحَلَّ اللَّهُ لكَ مِنْ حَلالِهِ " (١).
وفى العبارة السامية: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) إشارتان بلاغيتان:
إحداهما: تقديم (وَمِمَّا زَقْنَاهُمْ) على (يُنفِقُونَ) وفي ذلك بيان أنهم لا ينفقون من كسب خالص لهم بل إنهم ينفقون من رزق الله تعالى، فهو وحده الرزاق إن شاء أعطى، وإن شاء منع، ولست أيها المنفق ترزق نفسك إنما يرزقك الله وحده، فأنت تعطي مِن عندِه، وتجود على نفسك وعلى عباده مِن عِندِه، فالتقديم للقصر أولاً، وللاهتمام بالإنفاق ثانيا.
الثانية: أن الإنفاق لَا يكون بكل ما رزق الله تعالى بل يكون ببعضه وإن كان الكثير فـ " مِنْ " في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) للتبعيض؛ أي: ينفقون بعض ما أعطاهم الله، فلا يكونون كالمبذرين، وإن المبذرين إخوان الشياطين، والإنفاق في سبيل اللَّه تعالى لَا يستكثر فيه الكثير، فكما قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: إنفاق ألفٍ في برٍّ لَا سرف، وإنفاق درهم في غير بر سرف. وإنما موضع الإسراف أو الزيادة في الإنفاق على نفسه، والله تعالى عليم خبير.
________
(١) رواه ابن ماجه: كتاب الحدود: باب المخنثين (٣٦١٣).
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) بعد هذه الأوصاف الذاتية التي يؤمنون فيها بالغيب، فتخشع قلوبهم لذكر الله، ويقيمون