وهنا إشارة بيانية إلى أن المنافقين ليس من شأنهم الإيمان بشيء؛ لأن الإيمان بشيء من الأشياء يقتضي الإذعان والتصديق والتسليم، والعمل بموجب الاعتقاد والاستجابة، والمنافق قلبه غير مستقر، ولا مطمئن إلى شيء، هو قلب خاوٍ، والحقائق تتردد فلا تسكن، ولا تدفع إلى عمل ولا اطمئان، فلا يؤمن بشيء، ولقد قال - ﷺ -: " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، لَا تدري إلى أيهما تذهب " (١)، وقال تعالى في وصفهم: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلا إِلَى هَؤُلَاءِ...)، ومهما تكن حالهم فهم أشد الكفر عنادا وعنتا وخبثًا ومقتا عند الله ورسوله، وعند الناس أجمعين. ولقد يبلغ النفاق أن يغلب على نفوسهم، فيظنون أنهم يخادعون الله، ويحسبون أنه ليس عليما بخفايا نفوسهم؛ ولذلك قال:
________
(١) سبق تخريجه.
(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) الخدع: أن يظهر الشخص أنه يريد أمرا ليخفي إرادته الحقيقية، ومقصده، ومن ذلك ضَبّ خادع إذا أخفى نفسه في جحره، وقد أراد أن يضلل من يراقبه، فأظهر الخروج من باب ويختفي في غيره.
وكذلك حال أولئك المنافقين أرادوا أن يظهروا الإيمان أو أظهروه، وهم يبطنون الكفر، ولا يريدون غيره، بل يريدون تضليل المؤمنين، كحال ذلك الضب الخادع الذي يوهم مراقبه أنه خارج من ناحية ليختفي في ناحية أخرى، فالنص الكريم تصوير لحالهم في فعلهم من إظهار الإيمان لأهل الإيمان، وإبطانهم الكفر، وتبادل كلماته فيما بينهم كما قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْفُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، وفي آية أخرى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ).