وإنه كلما اتسع أفق العقل البشرى في فهم الكون والحقائق والشرائع اتسع فهمه للقرآن الكريم، ولعل هذا هو الحقيقة التي أشار إليها بعض الصحابة، إذ روى عن أبي الدرداء أنه قال: " لايفقه الرجل، حتى يجعل للقرآن وجوهاً أي اتجاهات متلاقية، ولكن بعضها أعمق من بعض، وكله حق.
وروي عن ابن مسعود أن رسول الله - ﷺ - قال: " إن للقرآن ظاهرا وباطناً (١) وليس هو الباطن الذي يقوله الباطنية، إنما الباطن الذي أشار إليه النبي - ﷺ - هو الباطن الذي تدل عليه إشارات العبارات القرآنية، من أسرار الإعجاز البياني، وإلى ما تشير إليه من حقائق كونية ونفسية وخلقية وأحكام عملية، وغير ذلك من المعاني التي يدركها العالم المتعمق ذو البصيرة النيرة الذي آتاه الله تعالى نفاذ بصيرة، واستقامة فكر، كالذي يدركه علماء الأكوان في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠)، فالمعنى الظاهر لكل مُلمٍّ باللغة العربية هو أن السماوات والأرض كانتا متصلتين، وهذا معنى سليم هو الظاهر، والعالم المدرك للأكوان الباحث فيها يعرف كيف كانت السماء والأرض كتلة واحدة، وكيف انفصلت الأرض وتكونت عليها القشرة الأرضية، وكيف كان الماء العذب، والملح الأجاج.
وهكذا نجد أن كل تالي للقرآن يدرك من معانيه بمقدار إدراكه وعلمه.
والغزالي يقرر أن المعاني اللغوية، وما يشير إليه النقل والسماع هو المفتاح والطريق للمعنى العميق الذي يدركه الناس كلما تفتقت العقول واتسعت المدارك واطلعت على حقائق الكون، وأدركت معاني الآيات الطالبة للنظر في الكون، فهو اللوح الذي كتبت فيه حقائق هذا الوجود، وفيه الدلالة على وجود الله تعالى، وإبداعه. ويقول الغزالي في ذلك: " العقل والسماع لابد منهما في ظاهر التفسير أولا؛ ليتقى به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط واستخراج الغرائب التي لَا تفهم إلا بالسماع، ولا مطمع في الدخول إلى الباطن قبل إحكام
________
(١) أخرجه ابن حبان في صحيحه وذكره العراقي في تخريج أحاديث الإحياء جـ ١ - ص ٩٩.


الصفحة التالية
Icon