والسورة التي لم تصدر بها، ثبت عدم تقدمها لهذه السورة بالتواتر، فهي متواترة بالذكر في كل السور، ومتواترة بالسلب في سورة واحدة.
ولهذا نرى أن نسبة ذلك القول إلى إمام دار الهجرة مالك هو في ذاته موضع نظر، وقد اقترن ذلك بادعاء أنه لم يقرأها أحد من أصحاب رسول الله - ﷺ -، فيقول القرطبي عفا الله عنه: " فى مسجد النبي - ﷺ - بالمدينة انقرضت عليه العصور ومرت عليه الأزمنة والدهور من لدن رسول الله - ﷺ - إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) اتباعًا لسنة رسول الله - ﷺ -.
وإن لنا أن نرد ذلك القول، ونأخذ ذلك من كلامه هو، فهو قد روى أن عمر، وعليًّا، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، كانوا يقرأونها ويسرون بها.
وروى هو أيضا عن النبي - ﷺ - أنه كان يسر بها ولا يجهر، فقد روي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه قال: " كان يصلي بنا رسول الله - ﷺ - فلم يُسمعنا قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " (١) وروي عنه أيضا: صليت خلف رسول الله - ﷺ -، وخلف أبي بكر، وعمر، فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " (٢).
فالأمر أمر الجهر بها، لَا أمر تركها، وفرق كبير بين الترك لها أصلا، وترك الجهر بها.
وبذلك ينتفي ما ادعاه من أن أحدا لم يقرأها، اتباعا للسنة إن كانت سنة، وذلك لأنهم قرأوها خفية وفي سر، آخذين ذلك من سنة النبي - ﷺ -.
________
(١) رواه النسائي: كتاب الافتتاح - باب: ترك الجهر بـ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " (٩٠٦) وبنحوه عند. البخاري (٧٤٣)، ومسلم (٣٩٩)، والترمذي (٢٤٦)، وأبو داود (٧٨٢)، وابن ماجه (٨١٣)، وأحمد (١١٥٨٠).
(٢) أخرجه بهذا اللفظ النسائي: كتاب الافتتاح (٩٠٧)، راجع التخريج السابق.