فيها النبات، ويستغلظ سوقه، ويقوى عوده حتى يصير طعاما في ذاته أو حبا متراكبا، وهكذا، ولذا قال تعالى: (كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) كم - هنا هي الخبر الدال على الكثرة، وموضعها في الإعراب النصب أي كثيرا ما أنبتنا فيها (مِن كُلِّ زَوْجٍ) من بيانية، أي أنبتنا من زوج أي شيئين متقابلين في اللون أو الذكورة والأنوثة، وغير ذلك من كل شيئين متقابلين في الألوان والطعوم، وكريم - أي كثير المنافع في الأكل والملبس، والمأوى، وإن هذه الجملة السامية فيها من دلائل الإعجاز بإيجاز القصر، الذي تكثر فيه المعاني مع قلة الألفاظ، فهذه الجملة شملت كلَ ما في معاني الإنبات، وثماره من زرع وغراس نخيل وعنب، وفواكه من كل ما تشمله الألفاظ، وتراه الأعين.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً... (٨)
الإشارة إلى الإنبات، أي إن في ذلك لآية، أي لعلامة تدل على قدرة القادر، ونراها كل يوم في حياتنا الخاصة والعامة، وهي حولنا تنبئنا بالعليم الخبير، القادر على كل شيء، فحولنا النخيل والأعناب، وحولنا الحب المتراكب، والزروع والحشائش التي تأكل منها أنعامنا، وتدر علينا الدر الوفير، ولكن مع هذه الآية الباهرة والدلائل القاهرة أكثرهم لَا يؤمنون، ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (كان) هي الدالة على الاستمرار، أي وقد استمر أكثرهم غير مؤمنين؛ لأنهم لم تدرك عقولهم، ولم يتدبروا ولم يتفكروا.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
الواو عاطفة على ما ذكر من آيات بينات. والتعبير بربك للإشارة إلى معاني الخلق والربوبية والكلاءة والحفظ والرعاية والقيام على الحياة والأحياء، لأنه الحي القيوم (لَهُوَ) اللام لام التوكيد، (العزيز) أي الغالب (الرحيم) المتصف بصفة الرحمة الدائم، فهو رحيم بهذا الخلق والتكوين، ورحيم بهذه الرسائل التي أرسلها على أيدي الرسل، ورحيم بالبعث والنشور، ورحيم بكل ما ورد به الرسل من معجزات دالة على رسالاتهم، ورحيم بالعقاب والثواب، لأن ذلك حمل على الخير، وجزاء عليه.
* * *