وجاء من بعد بقصص من قصص نوح الأب الثاني للخليقة، وفيه ذكر شذوذ الكافرين من العرب، ولذلك ابتدأ سبحانه القصص بتكذيبهم، ولم يبتدئه برسالة نوح عليه السلام، فقال تعالى:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨).
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ابتدأ القول الكريم بتكذيب قوم نوح للمرسلين، أي أن طبعهم، وما آل إليه أمرهم أنهم يكذبون الرسالة الإلهية على لسان رسول يبشر وينذر، فهم لَا يكذبون نوحا وحده، وإنما يكذبون أصل الرسالة الإلهية لأنهم ماديون لَا يؤمنون إلا بالمادة، ولا يؤمنون بالغيب، ولب الإيمان هو الإيمان بالغيب، فلا إيمان لمن لَا يؤمن بالغيب.
(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦)
إذ ظرف للماضي متعلق بقوله:
(كَذَّبَتْ قَومُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) كأنهم جابهوا نوحا عليه السلام، وهو يقول لهم (أَلَا تَتَّقُونَ) بإنكار أصل الرسالة، وكأنهم يقولون: ما لنا ورسالتك، ورسالة غيرك وقوله: (أَلَا تَتَّقُونَ) ألا للتحريض والحث علي التقوى، وما أجدر كل منكر جبار، أن يطالب بالتقوى، واتخاذ وقاية لأنه يكون مغرورا، وكل من يتدلى بالغرور، يطالب باتخاذ وقاية ليمتلئ بالتقوى ووراء التقوى الإيمان.
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧)
أكد رسالته لهم بـ إن المؤكدة، وتقديم الجار والمجرور (لَكُمْ) أي لكم خاصة، ووصف نفسه بالأمانة، والأمانة تقتضي ألا يكذب على اللَّه، فيدعى عليه الرسالة، وهو لم يرسله، وتقتضي الأمانة فيما يخبرهم، ومع الأمانة الرعاية والمحبة والإخلاص لهم، والبر بهم.
ولأنه رسولهم الذي أرسل إليهم طالبهم بتقوى اللَّه والطاعة فقال:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨)
أي أطيعونى لأن هنا ياء المتكلم مقدرة في القول بدليل كسر النون المنبئ عنها، طالبهم بأمرين: تقوى اللَّه، لأن قلوبهم جامدة جافية عن ربها، إذ ليس فيهم إيمان بشيء، ولا خوف من حاضر ولا غائب، ولا علاج للنفس اللاهية الجافية إلا بالتقوى، أو الدعوة إليها، والأمر الثاني طاعة الرسول، ولا سبيل لطاعته إلا أن تمتلئ نفوسهم بالتقوى، ومهابة اللَّه والخضوع له.


الصفحة التالية
Icon