ما قيل من أن هذه الحروف الصوتية التي اشتملت عليها بعض أوائل السور إذا أنطق بها الناطق مع ما فيها من مد طويل أو قصير، استرعى ذلك الأسماع فاتجهت إليه، وإن لم يُرد السامعون. ويروى في ذلك أن المشركين من فرط تأثير القرآن قد تفاهموا على ألا يسمعوا لهذا القرآن: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَروا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). فكانوا إذا قرعت آذانهم هذه الحروف بمدها، التفتوا مرغمين، ثم هجمت على قلوبهم من بعد ذلك الآيات البينة المحكمة، تعالت كلماته سبحانه:
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم): هذه الجملة السامية تبين أصل التوحيد، وتقرر معناه، فابتدئت بلفظ الجلالة الذي يدل على كمال الألوهية، وانفراده - سبحانه - بحق العبودية، إذ إنه الإله وحده الذي أنشأ الخلق ورباه ونماه، ولا مالك لهذا الوجود ومن فيه وما فيه سواه. ولفظ " الله " علم على الذات العلية المتصفة بكل كمال والمنزهة عن كل نقص، والتي لَا تشابه الحوادث، ولا يشبهها شيء من الحوادث: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
ثم صرح سبحانه وتعالى بما تضمنه لفظ الجلالة وهو الانفراد بالألوهية وحق العبودية فقال سبحانه: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي لَا معبود بحق إلا هو، أوْ لَا إله في الحقيقةِ والواقع إلا هو، وكل ما يدعى له الألوهية من شخص أو وثن فهو ليس إلا أسماءٌ سماهم بها المشركون الضالون، وليس من حقيقة الألوهية في شيء (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ...)، ثم بين سبحانه الأوصاف التي تبين استحقاقه وحده لحق العبودية، فقال سبحانه: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أي الدائم الحياة الذي لَا يفنى، ويفنى ما سواه، ولا يستمد حي حياته إلا بإرادته سبحانه، وهو القائم بنفسه، والقائم على كل شيء، والمدبر لكل شيء. فهذا معنى القيوم (١).
________
(١) قال الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى: قد فسرنا هذه الجملة السامية في تفسير آية الكرسي فارجع إليه..