النفس، وإذا تحكم الهوى وسيطرت الشهوات المختلفة كشهوة التسلط والغلب وحب السلطان، وشهوة المال، وشهوة النساء، وشهوة المفاسد، فإن القلوب تركس، وتفسد، وتعوج، فلا تطلب الحق لذات الحق، بل تطلب ما يحقق شهوة النفوس، وأولئك لأنهم لَا يطلبون الحق يتبعون المتشابه يتقصَّوْنه ويتعرفون مواضع الريب، ليثيروا الشبهات حول الحق، ويشككون الناس فيه، ولذا قال سبحانه: (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) أي طلبًا لفتنة الناس عن دينهم وخدعهم، وإثارة الريب في قلوبهم، بأوهام يثيرونها حول المتشابه الذي جاء في القرآن، مثل أن يقولوا: ما نعيم الجنة وما جحيمها؟ و (أَئِذَا كنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...).
وكيف يخلق الله العالم؟ وهكذا يثيرون هذه الأوهام المشتقة من مألوف الحياة الفانية، ليشككوا في حقيقة الحياة الباقية. فابتغاء الفتنة مقصودهم الأول؛ ولذا ذكر أولا، ثم أعقبه سبحانه بابتغاء التأويل فقال: (وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ) فهم قد ابتغوا التأويل بانبعاث من الهوى والرغبة في تضليل الناس وإثارة الشكوك حول حقائق الدين، فالرغبة في الفتنة هي المقصد الأول، والرغبة في التفسير أو معرفة المآل جاءت تابعة إذ لَا تتحقق الفتنة إلا بها.
والتأويل في أصل معناه اللغوي كما قال الأصفهاني في مفرداته " من الأَوْل أي الرجوع إلى الأصل، أي رد الشيء إلى الغاية المقصودة منه علما أو فعلا " فهو معرفة الغاية، إما بمعرفة المراد المقصود؛ ولذلك أطلق التأويل على التفسير ومعرفة ما يخفى من الحقائق وإرادة غير الظاهر لقرينة تدل عليه؛ وإما بمعرفة المآل والنتيجة عملا، كما في قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣).
والتأويل الذي يبتغيه الزائغون هو معرفة المآل في الدنيا، كأن يطلبوا إنزال العذاب الذي يهددون به، وكأن يطلبوا إحياء بعض الموتى، وقد يفسرون تفسيرات