ومن سنن الله في الحر وبـ التي استبانت من القصة أن النصر يكون عند اتحاد العزائم وتلاقي القلوب، وأخذ الأهبة، والصبر والثبات، وأن النصر ليس بكثرة العدد، وإنما هو بالعزيمة الماضية والثبات والصبر، والمعونة من الله العلي القدير، وأن الحق في ذاته قوة إن آمن به صاحبه، وأراده عزيزًا كريمًا غير ذليل.
ولقد سن سبحانه في هذا القصص الطريق لاختيار الحكام، فبين أن الحاكم لا يُختار لنسب رفيع، ولا يختار لمال وغير، ولكن يختار لقدرته على القيام بأعباء الحكم من قوة في نفسه، وقدرة على الاستيلاء على أهوائه وشهواته، وعلم غزير بشئون الاجتماع وأحوال الناس، ومن تجارب هادية إلى الحق في الأمور، وإخلاص ينير الطريق والبصائر، وليس الحكم عطاء يُعطى، ولكنه ابتلاء وأعباء.
وإن الحاكم الذي تجتمع القلوب حوله هو حكم الجماعة، والحاكم مظهرها، وأن قُتِلَ الحاكم أو مات أقامت الجماعة مثله، أو خيرًا منه، أما الحاكم المتسلط المتجبر فإنه جامع للناس على رغباته، فإن قُتِلَ أو مات تفرق الجمع - وولى الأدبار. وهذه إشارات إلى العبر في ذلك القصص الحكيم.
(تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) بعد ذكر تلك القصة المرشدة الهادية لكل مستبصر معتبر، بين الله سبحانه أن هذه الآيات المتلوة هي من عند الله، وهي تتلى بالحق الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنها تتلى على الرسول الكريم - ﷺ - وهي معجزته وآية رسالته، وإنما ذلك بعد هذه القصة لما فيها من الدلائل الواضحة البينة التي تثبت رسالة النبي الكريم؛ لأن ذلك القصص الصادق جاء على لسان أمي لَا يقرأ ولا يكتب، لم يجلس إلى معلم، ولم يأته علم لَا بطريق كتاب يقرؤه؛ لأنه ليس بقارئ، ولا بطريق معلم يعلمه، ولا بتلقين من أي جهة كان التلقين، إذ كان - ﷺ - من أمة أمية ليس فيها علم مدون في كتب، ولا علماء يتدارسون، ولم يكن جو علمي ينال منه الأريب بالخلطة والاتصال، ولم يكن محمد - ﷺ - في حياته ذا نجعة وأسفار، بل لم ينتقل من مكة إلا مرتين كانت أولاهما وهو غلام، وكانت الثانية وهو يقارب الخامسة والعشرين.


الصفحة التالية
Icon