والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد
ذكر أن الله تعالى خلقه، أي أنشأه من طين فلا يصح أن يستكبر، ويستغلظ على الهداية، وليذكر أصله، فأصله من طين، ولا يزال رب البرية يربه وينميه من الطين، فغذاؤه نبات أو حيوان يرجع إلى الطين، وفي ذكر هذا الأصل إشارة إلى أمرين جليلين: أولهما - عظمة الخالق وإبداعه الذي يجعل من صلصال من حمأ مسنون ذلك الإنسان الحي المتفكر المتدبر الذي يختار الشر فيغوى، ويختار الخير فيهتدي، والإشارة إلى تذكير الإنسان إلى أصل خلقه، لكيلا يستكبر ولا يغتر ولا يستعلي، وإذا كان أصله من الطين، فليس عجبا أن يعود كما بدأ: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ...).
وإن الله سبحانه وتعالى، قد خلق الإنسان من الطين، أي خلق أصله من طين، ثم توالد وتناسل من بعد ذلك، وعمر الأرض ما شاء أن يعمرها حتى كان منهم من نسي أصله الطيني، وقد قدر سبحانه لكل إنسان أجلا، ولبني الإنسان جميعا - أجلا - أما الأول - فقد أشار إليه سبحانه وتعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا) أي عمرا تكون له نهاية في هذه الدنيا، وعقبى هنالك في الآخرة، وكان العطف بـ " ثم " للإشارة إلى الأطوار التي يمر فيها الإنسان، والأطوار التي يمر بها الجنين، وللتفاوت بين الحقيقة التي نراها ونحسها والغيب الذي لَا نعرفه، مما قدره الله تعالى إذ يقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ...).
هذا هو أجل العمر، وقال سبحانه بحد ذلك: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وما هذا الأجل المسمى عنده، ولا يعلم به أحد الآن يصح أن يكون الأمد الذي يكون بين الوفاة، وبعث من في القبور، ويصح أن يكون ما قدر للإنسان في هذه الأرض من وجود، والأمران متلاقيان، فالزمن الذي يكون بين وفاة كل واحد، والبعث


الصفحة التالية
Icon