(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
عبر عن الكفار بالرسالة المحمدية، والوحدانية واليوم الآخر بالذين خسروا أنفسهم، وجعل الكفر نتيجة للخسران، فالخسران يبتدئ، والكفر نهايته، أو هما متلازمان، فالخسران سابق ولاحق لأنه يترتب على الكفر خسران متضافر.
والخسران الذي يسبق الكفر، وهو خسران الفطرة، فلا يكفر بالدليل القاطع إلا من يخسر فطرته وخسران الإدراك السليم؛ لأنه لَا يكفر بوجود الله إلا من ينسى أن كل أثر له مؤثر، وكل موجود له موجد، وخسروا عقولهم إذ سيطرت الأوهام عليهم، فأشركوا مع الله أحجارا تحطم، وأوثانا تصنع، ونجوما تأفل، وخسروا نفوسهم فصارت معوجة، وخسروا قلوبهم فصارت مظلمة، وإذا كانت كل مداركهم قد سدت فهم لَا يؤمنون؛ لأن الإيمان يحتاج إلى قلب مخلص، وعقل مدرك، وإذعان للحق إذا بدت معالمه، وظهرت أماراته، وإنهم بعد الكفر يزيدون خسرانا، إذ كل إنكار للحق خسران في ذاته؛ لأنه نزول عن مرتبة الإنسانية السامية.
وقد قال تعالى: (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) وعبر بالمضارع للإشارة إلى أنهم لَا يكون الإيمان شأنا من شئونهم، ذلك لأن من امتلأت نفسه بالأوهام وصارت عشا لها، وضلت عقولهم لَا يمكن أن تذعن لشيء، بل هي دائما مضطربة حائرة تنتقل من ضلال إلى ضلال، ومن متاهة إلى مثلها، كمن يضل في بيداء كلما أوغل زاد ضلالا (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً...).
* * *