لا للعير، وإني أميل إلى التخريج الثاني لأنه يساوق اللفظ ولا يحتاج إلى تأويل، ولا تأباه الألفاظ، ومؤداه أنه كما وجد فريق من المؤمنين كاره للخروج من بيتك لتتبع الحير، وجدت كراهية القتال عند إرادة الحرب، ويكون قوله تعالى: (كمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ) متعلقا بقوله تعالى:
(يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
ونقف هنا عند أمرين: أولهما - أن الله تعالى ذكر الحق بالحق مرتين:
أولاهما - (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيتِكَ) أتى بالأمر الثابت الذي هو الحق في ذاته، والحق في رفع شأن الدين، والحق في مصلحة المؤمنين، والحق في أنه أمر الله تعالى وإرادته، وأن النبي - ﷺ - ما أراده من ذات نفسه، وإنما أراده الله تعالى له، وهو ربه الذي خلقه ورباه وهو أعلم بمصالحه ومصالح المؤمنين والإسلام، وإعزازه تعالى كلمة الحق، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
ثانيهما - عندما ذكر الجدال في قوله تعالى: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).
والحق هنا هو أمر القتال فقد فرت منهم العير التي خرجوا إليها ليأخذوها، وبدا لهم النفير، فبدل أن يلقوا عيرا ينقلوها، لقوا جيشا يقاتلونه، وذلك هو الحق الثابت الذي فيه الشوكة إن انتصروا، والصبر عند الصدمة، وقد جادلوا في هذا مع أنه صار أمرا لَا مناص منه.
وفى الحق كانت قوة الكفر مسيطرة، وما كان للمؤمنين قِبَلٌ بها لولا تأييد الله تعالى ونصرته، فالخوف كان لَا بد منه، وليس الشجاع هو الذي لَا يخاف، إنما الشجاع هو الذي يقدر قوة عدوه ويخافها، ولكن يدبر للقائها، ويعمل على التغلب عليها، ولقد كان جدلهم في هذا منشؤه المحافظة على النفس كجدلهم حول الغنائم فمنشؤه الرغبة في الموت.