وإن عقاب الدنيا والتنكيل بهم فيها، لكيلا يستشري الشر، ولكيلا يُغْروا بالمؤمنين، ولكيلا يكون على المؤمنين حرج، ولكي ينالوا جزاء ما فعلوا، ولأن السابقين كان ينزل العقاب الدنيوي بهم بخاسف أو بريح صرصر عاتية، أما أمة محمد - ﷺ - فإن الله تعالى يفنى الأشرار، ويبقى الأخيار.
كان عقاب الدنيا لذلك، وهذا لَا يمنع عقاب الآخرة، وهو الأوفى جزاء؛ ولذلك قال تعالى:
(ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (١٤) الإشارة إلى هذا العذاب الأليم، وأتى بكاف الخطاب للجمع، تأكيدًا لعموم الخطاب للكافرين، وأنهم جميعا يخاطبون بذلك حتى يتوبوا، فإن تابوا فقد انتهوا والله قابل للتوب شديد العقاب.
وذلك كما قلنا إشارة إلى العذاب، والإشارة استحضار له، و " الفاء " في قوله تعالى: (فَذُوقُوهُ) فيها إشارة إلى العذاب الدنيوي الذي " يذوقونه " وهي للإفصاح أي إذا كان هذا عذابكم فذوقوه، والتعبير بذوقوه إشارة إلى آلامه وقد ذاقوها وأحسوها، فقد ذاقوا النكال وذاقوا القتل، وذاقوا الذل بعد الاستكبار، وذاقوا عذاب الهون بما كانوا يكسبون.
وإنهم مع ذلك لِن يفلتوا من عذاب الآخرة، فإذا النار لاحقة بهم، ولذا قال تعالى: (وَأَنَ للْكَافِرِين عَذَابَ النَّارِ) وفي العبارة ما يوحي بأنه العذاب المعد لهم، وكأن عقاب الدنيا أمر عرضي ليس هو الجزاء الحقيقي لهم، إنما كان لمنع استمرار شرهم، وإنهاء فسادهم، ولمنع الفساد في الأرض.
(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١).
ولذا أكد جزاء الآخرة، لأنه الأصل الثابت، فقال: (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ) فأكده أولا - بـ " أن " الدالة على التأكيد، وثانيا بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار والدوام، وثالثا - بتقديم الجار والمجرور الدال على اختصاصهم بعذاب النار، ورابعا ببيان أن الكفر هو السبب، لأنه عبر بالوصف، وذلك دليل على أن الكفر هو السبب في عذاب النار..