وقد تكلم العلماء في الفرار، فأجازه بعضهم إذا كان العدو كثيفا، والمؤمنون قلة، وهم مأكولون لَا محالة، ونحن لَا نجيز تولية الأدبار مطلقا، لأنه تمكين من رقاب المؤمنين، وإذهاب للبأس، ولكن نجيز التراجع المنظم كما فعل القائد العظيم خالد، إن تولية الأدبار إذلال للمؤمنين وتمكين من القتل الرخيص وليس هو التراجع الحكيم؛ لأن المتراجع يحمي صدره، والمولي الأدبار يمكنهم من ظهره.
وقد بين الله سبحانه في النهي عن الفرار جزاء من يولهم يومئذ دبره، فقال تعالى: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) أي يوم الزحف ولي مدبرا مضطربا (فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي رجع مغضوبا عليه من الله تعالى، فغضب عليه، والواجب أن يطلب رضوانه، (وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ)، أي الذي يأوي إليه جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). وبعد ذلك بين الله سبحانه وتعالى أن النصر بيد الله، وأنه سبحانه هو الذي يهزم المشركين، وهو الذي يرميهم فقال تعالى:
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
وفق الله المؤمنين في هذه الغزوة، كانوا قلة فأراهم المشركين كثيرين، ورأوا المشركين قليلا وهم كثيرون، وسهل الله السبل للمؤمنين فألقى في قلوبهم الرعب وأمدكم بالملائكة، فملأكم روحانية وجعلهم الله بشرى لكم، واطمأنت قلوبكم، وغشاكم النعاس، وأنزل عليهم الماء فثبَّت به الأقدام وطهر رجز الشيطان.
أمدهم الله تعالى بهذا فكان النصر، وقد قال تعالى: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فئَةً كَثِيرَةً بِإذنِ اللَّه)، فكان النصر من عند الله، وكما قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصرَكُمُ اللًّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ)، ولما أصابهم الغرور، وحرمهم الله من نصره ابتداء ولوا الأدبار، وقال الله تعالى في ذلك: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥). لهذا التوفيق


الصفحة التالية
Icon