وإنه إذا فقد ما خصه الله تعالى به من هذه النعم فقد نزل من درجات الإنسانية إلى حضيض الحيوانية، وكان شر الدواب في هذا الكون؛ ولذا قال تعالى:
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ).
الدواب جمع دابة وهي ما يدب على وجه الأرض من النملة إلى الحشرة إلى ما فوق ذلك، وإنه إذا عبر عن الإنسان بأصغر ما ينطبق عليه اسم الدواب والحيوان كان ذلك تحقيرا له واستهانة بأمره من زعيم يرفع ويخفض إلى حيوان لَا يملك من أمره شيئا، تدعكه الأرض بالأقدام، وهو حيوان كله آفات، ليس بكامل بل هو أصم لَا يسمع، أبكم لَا ينطق، وهو لَا يعقل فليس فيه قلب يفقه، ولا عقل يعقل، إنه شائه (١) في ذاته، ناقص في كونه، وإن كان ذا رواء؛ لأن تقدير الإنسان ليس بشكله وصورته، ولكن بقلبه وعمله.
وفى الكلام استعارة تمثيلية شبه فيها من لَا يسمع الحق ولا يدركه، ولا يبصر الآيات ولا يتأملها، ومن لَا يفقه الحق ولا يدرك بالدابة التي لَا تسمع مواطئ الأقدام، فتطؤها، ومن لَا ينطق مستغيثا، فتدقه الأمور دقا، ومن لَا يعقل ما يضره، فيكون فريسة الكل، وجامع التشبيه هو عدم الفائدة من هذه الحواس فهي إذا كانت ذات فائدة في ذاتها فإنه لَا يستفيد منها، ومن لَا يستفيد من شيء فوجوده وعدمه سواء.
وإن تشبيه الكافر بالدابة هو أصغر تشبيه له، وقد قال تعالى في تشبيهه:
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١).
وكقوله تعالى: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
وإنهم لو سمعوا لَا يجيبون، ولذا قال تعالى:
________
(١) شائه: قبيح. كما في القاموس.
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
هذا ترشيح للاستعارة التي قوامها تشبيه حالهم في أنهم لَا يسمعون سماع تدبر، ولا يبصرون بصر تأمل، بمن لَا يسمعون ولا يبصرون فهذا النص تقوية للتشبيه؛ لأنه قرينة تساعد المشبه به.


الصفحة التالية
Icon