القبائل، حتى وجد قبل الهجرة بما يقارب سنتين الأوس والخزرج، فأخذ يدبر أمر الهجرة إليهم في يثرب، ويعد العدة لذلك ويهيئ المُتَبوَّأ، ويتم الرسالة، بلاغا وتبيينًا، وقد هاجر من هاجر قبل ذلك إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة من يحفظ القرآن ويعلم الإسلام فهل كانت الهجرة فرارًا من الإيذاء وطلبا للأمن؟.
لا شك أن فرار الذين هاجروا إلى الحبشة كان من الأذى والفتنة في الدين، وينطبق عليهم قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ...).
أما هجرة النبي - ﷺ - فما كانت فرارًا من الأذى بل كانت نظاما لتأسيس دولة، ولأنه نظام يجب أن يتحقق، ولأن الإسلام جاء لإقامة دولة تحكم بأمر الله ونهيه، وتقيم العدل، وترفع الجور، وما كانت تتمكن من ذلك، وهي خاضعة لعبدة الأوثان، بل كان لابد من الهجرة حيث تكون القوة، وحيث يتمكن من إقامة الدولة، وقد اختار الله تعالى من الأرض أرضا ينتشر منها خبر الدعوة المحمدية في كل ربوع البلاد العربية، فكانت أرض البيت الحرام، وقد مكث محمد ابن عبد الله - ﷺ - ثلاث عشرة سنة يدعو، دخل خلالها في دينه بعض قريش، وبعض القبائل، وعرف العرب دعوته، حتى إذا تكونت الجماعة التي كانت النواة الأولى، مهَّد لإنشاء الدولة، فسافر إلى المدينة مهاجرًا.
وبينما هو يعد العدة، أو أعدها ومهَّد الأرض وعبَّد المقام - كانوا يفكرون في الإيذاء، ولذا لَا نقول هاجر فراراً، بل كان الاتفاق الزمني، وهم يفرغون جعبتهم، وقد أفرغوها، وراشوها (١)، ولم يجدوا موضوعا لفعلهم.
________
(١) راش السهم، راش سهمَه يَرِيثه رَيْثا إِذا ركَّب عليه الرّيشَ، إشارة إلى كماله واستقامته. لسان العرب - ريش. والمعنى أنهم استعدوا لما هموا به من قتل النبي - صلى الله عليه وسلم.


الصفحة التالية
Icon