نزلت هذه الآية في مكة، وهي تتلى في سورة أكثرها نزل بالمدينة لتذكرهم بما نزل بهم من المشركين بمكة إذ كانوا يستهينون بأمرهم، ويستضعفونهم، وقد امتد أمر استهانتهم إلى الحجج القارعة، مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله القرآن، يقول تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا) هذا تصوير لبعض أحوالهم عند سماع تلاوة القرآن، فأحيانا كانوا يتناهون عن الاستماع وقالوا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، وأحيانا يطلبون آيات، وأحيانا لَا يعيرون القرآن التفاتا ويعلنون الاستهانة به.
(وِإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ) عبَّر بالمضارع لتصوير حالهم وتجددها آنًا بعد آنٍ والتلاوة: الترتيل بالقراءة آية تلو آية في نغم هو ترتيل الله تعالى، ولا يجيبون بالتأمل والتفكير والتدبر فيما يتلى، بل يعاجلون القارئ كأنهم يطلبون أن يسكت ولا يقرأ قائلين: سمعنا، كما تقول لمتكلم لَا تريد منه الاستمرار: سمعنا، سمعنا، أي أقصر، وكأنهم يتأففون، ثم يردون قائلين، (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا).
أي لو شئنا أن نقول مثل هذا الكلام لقلناه، ولكنا لم نُرِدْه، وهذا كلام يحمل في نفسه دلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، ولقد تحداهم القرآن أن يأتوا بعشر سور، فما أتوا، تحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا واعتذروا بأنهم لم يأتهم تأويله، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات فعجزوا، أفبعد هذا التحدي الشامخ والسكوت الخانع والعجز الخاضع يقول قائلهم: لو شئنا لقلنا مثل هذا؟!! تلك غطرسة كاذبة، ونفخة جوفاء.
ويردفون كذبهم بكذبة أخرى فيقولون: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (إنْ) هنا نافية، أي ما هذا الكلام إلا أحاديث الأولين التي يسمر بها ويقصدونها قطعا للفراغ، والأساطير جمع أسطورة وهي الأخبار التي يخترعها القصاصون وغيرهم في سموهم ولهوهم.


الصفحة التالية
Icon