وبعد أن يسمع كلام الله تعالى، إما أن يؤمن وذلك خير، ويكون من المؤمنين، وإما أن يستمر على ما هو عليه، وهنا سيتبين الخلق المحمدي الإسلامي بأمر الله، ولذا قال تعالى آمرا نبيه (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) والعطف بـ (ثم) هنا في موضعه إذ إن معناه أن يسمع ويتفهم ويتدبر ويعلم، ويعطي فرصة من الوقت يراجع نفسه فيها بين خير يرتجى، والبقاء على ما هو عليه، فإن اختار الخير، فقد اختار لنفسه، وإن اختار الأخرى فلا إكراه في الدين، والمأمن هو مكان الأمن له حيث داره وأهله، وقوله تعالى: (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) معناه توصيله إلى حيث أمنه؛ بأن يصحبه أحد من المؤمنين حتى لَا يدركه أحد فيقتله بمقتضى قوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).
وإن ذلك لتقريب المشركين وتأليف قلوبهم، فلا يقرب إلى الإيمان شيء إلا تأليف القلوب بالمودة والحسنى، وليتمكن كل مشرك من أن يتعلم الإسلام ومبادئه، فالنبي هاد، ولم يجئ بالحرب إلا لمنع الشر من أن يستشري ويفسد، ولذا قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) الإشارة إلى الأمان وسماع القرآن سماع وعي وتدبر واتباع للأحسن، وكله حسن، بسبب أنهم جماعة جاهلة، والجاهل يُعَلَّم فلا يسأل عن جهله حتى يعُلَّم، والتعبير بـ (قوم) إشارة إلى أنهم جماعة جمعهم الجهل فكانوا كالقوم.
ولا شك أن هذا الجوار أمان مؤقت أعطاه الله تعالى نبيه عليه السلام باعتباره إمام المسلمين، فيُعطاه كل إمام من بعده، وقد أعطاه النبي - ﷺ - لكل واحد من المؤمنين، فقد قال - ﷺ -: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعي بذمتهم أدناهم " (١)
أي إن أقل المؤمنين شأنا يستطيع أن يؤمَن من يشاء من المشركين، فكل بالغ عاقل ذكرا كان أو أنثى له أن يعقد عقد الأمان، والعبد له ذلك، وكان أبو حنيفة لا يجيز أمان العبد؛ لأنه يجوز عنده أن يؤسر شخص ويسلم فيؤمن من كان معه،
________
(١) سبق تخريجه.