يروى أن بعضهم قال لليهود الذين كانوا يمالئونهم على النبي - ﷺ -: أينا خير أنحن الذين نقوم بالسقاية والسدانة، ونطعم الطعام، أم محمد؛ فيقول لهم اليهود الذين لم يجر على ألسنتهم قول الحق قط: أنتم.
يقول الله تعالى موبخًا مستنكرا
(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والمعنى أصيرتم سقاية الحاج، أي جنس الحاج وهم الحجيج، وعمارة المسجد الحرام، أي تنظيفه والقيام على بنائه وتشييده، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله.
وقال أكثر المفسرين: إن في الكلام تقديزا لمحذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وقالوا إنه يدل عليه قراءة (سُقَاة) (١) بضم السين وهي جمع ساق، ويكون المعنى على هذه القراءة: أصيرتم سقاة الحجيج، وأهل عمارة البيت الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله تعالى، والاستفهام إنكاري توبيخي متضمن النفي وأن ما صنعوا لَا ينبغي لأهل العقول المدركة، والآيات تتلى عليهم بالحق المبين ليتدبروه فينكصون عنه، ويسمرون بهجر القول، ويتفاخرون بشعر العرب، كما قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧)، أي يهجرون القرآن، وكانوا يسمرون بالأساطير والخرافات وَيهجرون القرآن هجرا.
وقد أجاب سبحانه وتعالى عن الاستفهام التوبيخي مبينا الحق (لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ) فمقامهم عند الله مختلف مقام الجاهد المؤمن بالله واليوم الآخر، مقام عال، لَا يناصى، ومقام المشرك الذي يكتفي من الشرف بالسقاية والعمارة المادية، ويظن ذلك مقربا إليه زلفى، وهو يشرك بالله في عبادته الأنداد. إنهم تركوا الجوهر وناقضوه، وأخذوا بمظهر باطل لَا يغني عن الحق شيئا.
________
(١) ليست في العشر المتواترة.