ختم الله تعالى الآية السابقة بقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ) لإشعار المؤمنين بأنه من التقوى إطاعة الله في تحريم القتال في الأشهر الحرم حقنا للدماء، وأن الله تعالى لَا يصاحب ولا ينصر إلا المتقين، وأكد ذلك بالأمر بالعلم، كما أكده بالصحبة السامية لله تعالى، وبالجملة الاسمية.
ولذلك ذكر من بعد ذلك الاعتداء على الأشهر الحرم بالنسيء، والنسيء معناه التأخير والتأجيل، يقال: (نسأ) بمعنى أخَّر وأجل، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم " من أراد منكم أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه " (١).
وكانت طريقة النسيء أن يجيء إلى المحرم وهو من الشهر الحرام فيستبيح القتال فيه، ويؤجل التحريم إلى صفر، فيستبدل بالشهر الحرام شهرا حلالا، ولأنه يريد الغارة، وقالوا: إنما كانوا يفعلون ذلك رغبة في الغارات، وطمعا في الأموال من النعم، ويذكر ابن إسحاق في سيرته أن أول من فعل ذلك رجل من كنانة اسمه " القَلَمَّس ".
ولقد ذم الله النسيء أشد الذم فقال تعالى:
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب - من بسط له في الرزق بصلة الرحم (٥٩٨٦)، ومسلم: البر والصلة (٢٥٥٧).
(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكفْرِ) أي ليس النسيء إلا زيادة في الكفر، فـ (إنما) أداة قصر، فهو ليس إلا زيادة فيه؛ كفروا بملة إبراهيم عليه السلام فعبدوا الأوثان وطافوا بالبيت عراة، وكان شرع إبراهيم تحريم القتال في أربعة أشهر معينة بالتعيين، فغيروا فيها بالنسيء، فزادوا بذلك كفرا إلى كفرهم.
وقال تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أن شهواتهم في الغارات والقتل والقتال وتحكم الشيطان في نفوسهم يضلهم، ويلاحظ أنه بني للمجهول للدلالة على أن عوامل الضلال كثيرة رأسها شهواتهم في الحرب، وسيطرة الشيطان على نفوسهم، والعداوة والبغضاء بينهم، وكان هذا لأنهم أصحاب غارات وحروب