والقتال هنا قد تجاوز الجزيرة العربية إلى ما حولها من الشام، وتجاوز الوثنية إلى أهل الكتاب الذين يعبدون غير الله تعالى وذلك في غزوة تبوك، فقد كانت في شدة القيظ، وكانت بعد أن ملأت الغنائم الجيوب، وبعد أن أخذ الترفه يغزو النفس المؤمنة، وهو آفة القوة.
أخذ يدعوهم إلى الجهاد، شكان منهم من أقعدته الدعة، والاستنامة إلى الراحة، فلم يكونوا كما كانوا من قبل إذا دعوا إلى الجهاد سارعوا إليه، ولذا عاتبهم الله تعالى فقال:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ) صدَّر النداء بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) للإشارة إلى أن موجب الإيمان كان يدعو إلى المبادرة، لَا إلى التثاقل، وقوله: (مَا لَكُمْ) استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ، معناه أي شيء ثبت لكم فمنعكم من المبادرة إذا دعيتم، ثم صرح سبحانه بما تضمنه الاستفهام، وهو (اثَّاقَلْتُمْ) أصلها تثاقلتم، وفي قراءة الأعمش (تثاقلتم) على أصل الاشتقاق (١)، وموضع الاستنكار هو التثاقل عندما (قِيلَ لَكُم انفِرُوا)، و (إِذَا) متعلقة في الفعل المقدَّر في قوله تعالى: (مَا لَكُمْ) والمعنى أي شيء أثبت لكم حال ما قيل انفروا اثاقلتم و (انفِروا) معناه انتقلوا إلى الحرب، والجهاد في سبيل الله، فالنفير معناه الخروج إلى القتال.
وقوله تعالى: (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) معناه تثاقلتم، وثقلت عليكم المبادرة إلى القتال مخلدين بأنفسكم إلى الأرض حيث الدعة والراحة، والاستظلال بظلها، والسكون، ويتضمن هذا المعنى أنهم رضوا بالتقاعد في الأرض وترك الرفعة والمقام المحمود في الجهاد، كقوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ...).
والمعنى أنهم إذ تثاقلوا عن الجهاد رضوا البقاء في الأرض، فحقت عليهم الذلة.
________
(١) (تثاقلتم)، ليست في العشر المتواترة.


الصفحة التالية
Icon