وإنهم بتخلفهم يكشفون عن ضعف مُزْر، وإنهم فوق ذلك لفساد تفكيرهم ألقوا بأيديهم إلى الذلة، إذ استبدلوا بعزة الجهاد ذل الاستخذاء.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى كذبهم في قوله تعالت كلماته بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهمْ لَكَاذِبُونَ) أولا بذكر (يَعْلَمُ) فما يعلمه الله صادق لَا محالة، وثانيا: بالجملة الاسمية، وثالثا: بـ (إن)، ورابعا: باللام في لكاذبون. قبح الله الجبن، وضعف الإيمان والنفاق، فإنها أدواء الأمم بها تذهب عزتها، وتضرب عليها الذلة.
لقد اعتذروا بانتحال أعذار واهية، فأذن لهم النبي - ﷺ -، وما كان له أن يحكم بظواهر ما يقولون، ولأنه لَا فائدة في أن يكون في الجيش متخاذلين، يكون ذريعة للفشل في صفوفه، ولكن الله يعلم إنهم لن يخرجوا إذا لم يأذن لهم النبي بالتخلف، فيظهر كذب أعذارهم، وينكشف أمرهم، ولذا عتب على رسوله إذ قبل عذرهم، فقال تعالى كلامه:
(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣)
هؤلاء المنافقون الذين يذكرهم الله في هذه الآيات قد اعتزموا القعود وعدم الخروج، ضعفا وجبنا، وليفتوا في عضد أهل الإيمان. وعن مجاهد: " نزلت هذه الآيات في أناس استأذنوا رسول الله - ﷺ - وقالوا فيما بينهم. فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا، فهم قاعدون في الحالين، فكان الإذن ساترا لحالهم من قصد التخلف في الحالين، ولذا عاتب الله نبيه على الإذن الذي ستر حالهم، ومقصدهم الخبيث، وقعودهم الذليل، قال الله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) وقالوا إن هذا خطأ وقع من النبي - ﷺ - عاتبه الله تعالى عليه في ألطف عبارة عتاب، فقد ابتدأ قبل بيان وجه العتاب (بذكر العفو)، ثم ذكر موضع العتاب؛ وذلك لأن النبي - ﷺ - اجتهد في أمر قد أعطى حق الاجتهاد فيه، وهو تدبير الحروب، وتعرف أنجح الخطط فيها، وخيرها وصولا إلى الغاية، وقد رأى أن قعودهم خير من أن يكونوا معهم، ويهموا بالفشل، والمعركة قائمة، ولكن الله


الصفحة التالية
Icon