(يَعْمَهُونَ) أي يتخبطون ويتحيرون، ومنشأ الحيرة أن فطرهم تدعوهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم ولكنهم يطمسونها بأهوائهم وملذاتهم وسلوكهم، فهم في حيرة نفسية، وإن من الحيرة إيمانهم بأن اللَّه خالق كل شيء وأنه المستعان عند الشدائد، وهو إذا أغاثهم عادوا كما بدأوا، كما يقول تعالى:
(وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
ذكرنا في مواضع كثيرة أن العرب كانوا يعرفون اللَّه ولكن يشركون معه عبادة الأوثان، وغيرهم ما كان يعرف اللَّه إلا مع ثلاثة، أو يعرفونه حالا في بعض خلقه، أو لَا يعرفونه قط، فالعرب كانوا خيرا منهم أبي كان في الشر خيار، فكانوا يعرفون أن اللَّه وحده خالق الكون وأنه يُلجأ إليه في الشدة، وأنه ليس مثله أحد من خلقه، ولكنهم يشركون في عبادته وبذلك ضلوا ضلالا بعيدا.
ومما يدل على التجائهم في الشدة الالتجاء إليه في المرض الذي لَا يعرفون سببه وتتعدد أحواله، كما تذكرنا الآية الكريمة (وَإذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ) وهنا بيان الحقيقة وكمالها، أي الضر الذي بلغ حدا لَا يعرفون له علاجا ولا دواء، وأن الإنسان بإنسانيته المفطورة على الضعف يلجأ إلى ربه (دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) واللام في (لِجَنْبِهِ) بمعنى (على) وهي حال كونه مضطجعا على جنبه أو ملقى على جنبه لَا يستطيع حراكا لَا يملك أن يقعد، (أَوْقَاعِدًا) لَا يستطيع أن يقوم (أَوْ قَائِمًا) لَا يمشي كما اعتاد.
وتعدد هذه الأحوال للدلالة على أنه يدعو فيها كلها لَا في بعضها، وهذا دليل على شدة الالتجاء إلى اللَّه وكثرة الالتجاء.
أو يدعو في كل أحوال الأمراض ومنها ما يلقيه في الأرض، أو مرض يقعد فيه ولا يستطيع غيره أو يقوم من غير قدرة على السير، والمراد في كل الأحوال كثرة الدعاء لله وذلك مثل قوله: (... وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عرِيضٍ).