وفى النص الكريم أن متاع الحياة الدنيا دون الآخرة هو البغي الدائم المستمر، فيه يأكل القويُّ الضعيفَ والمرذولُ الكريمَ، ويتصارع الناس كوحوش الغابة ثم يكون الرجوع إلى اللَّه تعالى فينال كل امرئٍ ما كسب.
(ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، (ثُمَّ) تفيد الترتيب والتراخي، لاستطالتهم الحياة الدنيا وكثرة فسادهم وهنا إشارات بيانية: أولها: تقديم الجار والمجرور على (مَرْجِعُكُمْ) فهذا يفيد التخصيص، أي إلينا وحدنا مالكم ومرجعكم.
ثانيها: إضافة مآلهم إلى الذات العليا ففيه تهديد أيَّ تهديد، ومؤداه إن كنتم قد كذبتم في قسمكم في الدنيا فحسابكم على ذلكم عندنا في الآخرة وهي أبقى وأدوم.
ثالثها: بيان أن العقاب من جنس العمل وأن كل عمل يحمل في ذاته عقابه في الآخرة؛ ولذا قال سبحانه: (فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) والإنباء هو الإخبار بالأمر الخطير الشأن، وكان الإنباء بالعمل مقرونا بالعقاب الشديد من اللَّه سبحانه وتعالى، وقد تكلم الزمخشري في هذا المكان عن الظلم ومرتعه، فقد عاش مثل زماننا، وقد تعاقبت عهود الظلم على المسلمين حتى صار أمرهم بورا، وذكر - رضي اللَّه عنه - أن النبي - ﷺ - شدد في النهي عن المكر والبغي والنكوث وأنه - ﷺ - قال: " أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة، وأنه اثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين " (١).
وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين:
يا صاحبُ البغي إن البغي مصرعة | فارتع فخيرُ فِعَالِ المرء أَعْدَلُه |
فلو بغى جبل يوما على جبلٍ | لاندكَّ أعلاه وأسفلُهُ |
(١) تاريخ الطبري، عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه، وبنحوه الترمذي وابن ماجه، وكذا أيو يعلى عن عائشة رضي اللَّه عنها. وانظر ما جاء في فيض القدير: ج ١/ ٢٩٩.