(الباء) للمقابلة فإذا كان المحسنون يجازون بالحسنى وزيادة، فحسب المشرِكين أن تجازى السيئة بمثلها، كما يقول تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ومَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا...).
والمِثْل كثير إزاء ما ارتكبوا؛ فالشرك مثله من الجزاء كبير فلا حاجة إلى الزيادة، وقد ذكر سبحانه وتعالى هنا كلمتين نرى فيهما:
أولا: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) الكلمة لَا تدل على مجرد ارتكاب الذنوب، بل تدل على أن هذه الذنوب أشربتْ بها نفوسهم وكسبتها قلوبهم حتى صارت وكأنها كالجبلَّة لهم إن لم تكن كالفطرة منهم.
وفى اكتساب السيئات قال سبحانه: (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
ثانيا: كلمة (بِمِثْلِهَا) أي بمثل السيئة، وهذا في المقابلة والمشاكلة اللفظية فالجزاء ليس سيئة إنما هو العدالة التي ليست سيئة في ذاتها، كقوله تعالى: (... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...).
ولكثرة سيئاتهم وتضافرها أظلمت بها نفوسهم، ويوم الحساب تظهر ظلمة القلوب ظلاما في وجوههم، ولذا قال تعالى: (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُم مِّنَ اللَّه مِنْ عَاصِمٍ كَأنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا).
هنا تشبيه واستعارة، أما الاستعارة فهي قوله تعالى: (قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) وفيها يبدو الليل كأنه الثوب الأسود الذي قُطع قطعا.
وأما التشبيه في قوله تعالى: (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ) أي ألبست وأغطيت بقطع مظلمة، وهذا تصوير لسواد وجوههم بما اقترفوا، فقلوبهم المظلمة تكسو وجوههم بالظلام، وفي هذا التصوير الحسي تصوير معنوي لنفوسهم.


الصفحة التالية
Icon