بالغيب بتعليم الله تعالى، وليس من ذاته، وإنه لَا يعلم الغيب إلا الله، وما يعطيه الله تعالى، كما أعطى عيسى ابن مريم، إذ كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وكان ذلك بعد يوسف بعشرات القرون.
وإن هذا يدل على أن الله تعالى قد بعثه نبيا على ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقد كان قد بلغ أشده ليتحمل الرسالة، لقد تلونا من قبل قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه آتَيْنَاه حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) والنبوة هي الحكم والعلم.
قبل أن يؤوِّل تقدم بالنبوة، ودعا إلى إبطال الشرك وإنكار البعث، وابتدأ الدعوة النبوية بأن ذكر نفسه قدوة لهم، فقال: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، وقد وصفهم بحالين سلبيتين إحداهما: أنهم لَا يؤمنون بالله، بل يعبدون الأوثان، والثانية: أنهم يكفرون بالبعث، وأكد كفرهم بالبعث بتقديم (الآخرة)، على الكفر، وذلك لمزيد الاهتمام بالكفر بالآخرة، وبتكرار (هُمْ)، وكان التأكيد لغرابته عند أهل العقول المدركة، فالعقل يوجب الإيمان بالآخرة؛ لأن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى، ولأن فيه سلوان لمن لَا يدرك حظه في الدنيا، ولأنه يتفق مع العلو الإنساني.
بين أنه ترك أن يكون من ملة هؤلاء المشركين الكافرين باليوم الآخر، وبين بعد ذلك أنه لم يكن سلبيا، بل كان إيجابيا، ولذا قال:
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ... (٣٨)
ذكر هنا أبوه يعقوب، وجداه إبراهيم وإسحاق، وملتهم واحدة، وهي ملة إبراهيم الحنيفية السمحة: التوحيد، وقال: إنها المعقولة التي تدركها العقول المستقيمة، والدين الحق، ولذا قال: (مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ)، (مِن) هنا لبيان عموم النفي، أي من شيء وأي شيء، حجرا أو إنسانا أو زرعا، أو حيوانا، أو غير ذلك مما عُبد من دون الله، وإن التوحيد فضل وعلو بالنفس الإنسانية إلى مقام الإدراك السليم، ولذا أخبر تعالى عنه أنه قال: (ذَلِكَ


الصفحة التالية
Icon