(إِنَّ فِي ذَلِكَ) الإشارة إلى المذكور من: مد الأرض، ووجود أوتادها، وتحدر الأنهار منها، ووجود الأزواج المختلفة (لآيَاتٍ) أي لدلالات بينات (لِّقَوْمَ يَتَفَكَّرُونَ) لجماعة يفكرون ويتفاهمون على التفكير ويتدبرون المعاني، فإنها لو كانت بالتعليل المجرد ما تنوعت هذا التنويع، وما تقابلت هذا التقابل فيما بينها، بل كانت صنفا واحدا ولم تكن أصنافا، وكانت لونا واحدا، ولم تكن ألوانا، واللَّه بكل شيء عليم.
(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
إن القضية بين الفلاسفة الطبيعيين، والدين الإسلامي في أصل الخلق أن الطبيعيين يقولون - باطلا -: إن الأشياء كانت من العقل الأول كما يكون المعلول من علته. وإن ذلك يقتضي جدلا وحدة المخلوقات جنسًا وشكلا وحقيقة، ولكنها متغايرة في كل شيء، متغايرة في طبعها وشكلها وطعومها وألوانها مما يدل على أن لها خالق مدبر فعال لما يريد، مبدع على غير مثال ولا محاذاة.
(وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ متَجَاوِرَاتٌ) بعضها طيب تخرج نباتها، وبعضها سبخة لا تخرج زرعا، وبعضها صخري، وبعضها رملي، وبعضها صالح للزرع دون الغراس، وبعضها صالح لها. وإنه لَا يخصص هذه لهذه الصفة، وللأخرى غيرها إلا للطيف الخبير مبدع السماوات والأرض، فدل هذا على وجود المنشئ المدبر لهذا الكون، الذي يغير ويبدل بإرادة مبدعة.
وفوق هذا، هذه الأرض المتدانية المتقاربة تسقى بماء واحد، ويختلف بعضها عن بعض في الأكل مع أن التربة تكون أحيانا واحدة، وتسقى بماء واحد، وتبذر بها بذور واحدة ورعايتها واحدة، ومع ذلك تأتي إحداها بالخير الوفير وإحداها لا يكون فيها الخير الكثير، فدل هذا على أن هناك مريدا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وكل عنده بمقدار، وكلّ بوقت معلوم، ولِحِكَم يعلمها اللطيف الخبير.


الصفحة التالية
Icon