بعد أن بين سبحانه علمه الذي لَا يفرق بين جهر وإسرار، وإخفاء وإظهار وقدرته الباهرة ويرونها عيانا في آياته في البرق والرعد والصواعق: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) الضمير في (له) يعود إلى اللَّه جل جلاله، وتقديم (له) على ما بعدها يدل على الاختصاص أي له وحده لَا لغيره دعوة الحق.
و (دَعْوَةُ) إما أن تفسرها بمعنى الدعاء وهو العبادة، أي له وحده العبادة الحقة، والإضافة بيانية، أي أن المضاف إليه فيه بيان للمضاف، أي الدعوة التي هي الحق، والحق ضد الباطل أي العبادة الثابتة الصادقة التي هي الحق، وغيرها الباطل. وإما أن يفسرها بمعنى الطلب، والالتجاء، أي لَا يلجأ إلا إليه، ولا يجيب غيره دعوة اللاجئين المستغيثين، ولا مانع من إرادة المعنيين، لأنه لَا تضاد بينهما، ولا تضارب، فيمكن الجمع بينهما، ويكون المعنى العبادة هي الحق، ولا التجاء بحق إلا له سبحانه، وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك بطلان دعوة غيره، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كبَاسِطِ كَفَّيْه إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ).
كثر في الكلام العربي تشبيه الذي لَا يقبض على شيء ثابت بالقابض على الماء، لأنه لَا يستقر في يده؛ إذ لَا يمكن القبض عليه، وجاء القرآن الكريم بأبلغ مما عند العرب في هذا المثل الرائع في لفظه ومعناه، فشبه حال من يدعو غير اللَّه بحال من يبسط يده للماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه، أي ليرتفع إلى فمه، وما هو من شأنه أن يبلغه؛ ولذا كان النفي باسم الفاعل، فنفي عن الماء ذلك الوصف، ونفي الوصف أبلغ من نفي الفعل، والتشبيه تشبيه تمثيلي، فيه تشبيه حال بحال، ففيه حال من يدعو ما لَا يضر ولا ينفع ولا يجيب، ولا يدرك معنى الطلب أو العبادة، بحال العطشان الذي أمضه العطش، فيطلب من الماء أن يرتفع إلى فمه إذا بسط يده، ومد أنامله إليه على قرب أو بعد، فإن الماء لَا يجيء إليه، ولا يستطيع أن يتناول منه بهذه الطريقة ما ينقع غلته ويطفئ ظمأه.