الثاني: أن التعبير بـ (لَتَعُودُنَّ) يوحي إلى أنهم كانوا في ملتهم، وخرجوا منها وطلبوا أن يعودوا إليها، والرسل لم يكونوا فى ملتهم أبدا، فما كان الرسل ليشركوا باللَّه ويعبدوا الأوثان، والجواب عن ذلك من وجوه أولها: أن عاد بمعنى صار وهي كثيرة الاستعمال في اللسان العربي كذلك، وثانيها: أن ذلك ينطبق على أتباع الرسل، وثالثها أن حال الرسل قبل الرسالة تكون صمتا عن الشرك لا يعتقدونه ولا يقومون بالدعوة ضده، فيحسبهم الجاهلون من أهل الشرك أنهم معهم، فإذا جاءوا بعد البعث يدعونهم حسبوا ذلك جديدا على الرسل كما هو جديد عليهم، فطالبهوا بأن يعودوا إلى ما كانوا عليه لايعجزونهم بدعوة إلى الوحدانية ولا برسالة، ولا ذكر رسول.
وفى هذا الوقت الذي بلغ فيه العِند أشده والكفر أطغاه ثبت اللَّه قلوب رسله (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) أوحى اللَّه إلى رسله قائلا لهم: (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)، أو كان مدلول الوحي (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)،: اللام لام القمسم، والنون نون التوكيد الثقيلة، وهي توكيد للقسم فضل توكيد، وأظهر سبحانه في موضع الإضمار، فلم يقل لنهلكنهم، بل (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)، ، لبيان سب الهلاك وهو الظلم، وقد ظلم هؤلاء إذ لم يؤمنوا وأشركوا (... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣).
وظلموا فتعنتوا وطلبوا آيات أخرى وقد جاءتهم البينات، وظلموا بإيذاء المؤمنين وظلموا أشد الظلم فهمُّوا بإخراج الرسول ومن معه، وحاولوا فتنة المؤمنين ليكفروا بعد إيمان، ولم يتركوا بابا من أبواب الظلم إلا دخلوه (... وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ).
وكان من وحي اللَّه تعالى أنه بعد هاك الظالمين يسكن اللَّه الرسل ومن معهم مكانهم
(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ... (١٤)
والأرض هي أرض الدعوة التي هدد المشركون أن يخرجوهم منها، ولكن أخدهم اللَّه أخذ عزيز مقتدر قبل أن يتمكنوا، ولذلك قال الله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ