بعد ذلك اتجه الشيطان لتبكيتهم لأنهم أطاعوه، فقال: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوتكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)، أي أجبتم دعوتي الخالية من أي تسلط أو دليل طالبين ذلك مجيبين له، فما كانت تبعة طاعتكم لي عليَّ، إنما كانت عليكم؛ ولذا قال: (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفسَكُم) لقد كان أمامكم أمر اللَّه، وهو الخالق المنشئ، ودعاكم إلى الحق، ومعه الأدلة الثابتة وأمامكم دعوتي الخالية من البرهان والدليل، وليس لي عليكم قوة مهيمنة إلى وسوسة خفية فأطعتمونى وعصيتم ربكم.
وهذا شأن أتباع إبليس دائما يقعون في الشر ثم يلومون من أوقعوهم لأنهم أطاعوهم، وإن الشيطان له عذاب، وهو يصرخ بأنه فيه، وإنه لَا يستغيث، لأن أحدا لَا يغيثه ولا يستطيع أن يغيث أحدا، ولذا جاء على لسانه قوله: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) المصرخ هو المجيب للمستصرخ المغيث له، والصارخ هو المستغيث والمعنى بمستطيع إغاثتكم وما أنتم بمستطيعين إغاثتي، فالعذاب نازل بنا، وعلى كل أن يتحمل مغبة ما عمل وما اعتقد وما وسوس به من شر.
وقد أعلن ضلاله وضلالهم بقوله: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)، (ما) هنا مصدرية أو موصولة ولا يختلف المعنى في التقديرين، والمعنى: إني كفرت بالذي أشركتموني في عبادتكم من قبل، أي كفرت الآن بشرككم في الدنيا، وآمنت باللَّه تعالى وحده لَا أشرك به شيئًا، وقال: أشركتموني مع أنهم ظاهرا ما كانوا يشركون الشيطان بل كانوا يشركون أوثانا. فلِمَ نسب إليه أنهم كانوا يشركونه؟ والجواب عن ذلك أن عبادتهم الأوثان كانت بوسوسته هو وتسويلهم، والأصنام لَا حقيقة لها، فكأنهم كانوا يشركونه باللَّه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: (كَفَرْتُ) تفيد أنه يكفر الآن، مع أنه وهو الذي يزين عبادة الأوثان يعلم أن اللَّه وحده هو المستحق المعبادة، ولا معبود سواه، وأن عمله إغواء وإضلال، فهو غير مؤمن بها من قبل، والجواب عن ذلك: أنه الآن يعلن كفره بها.