ينقل القرآن عجائب نعم الله تعالى على خلقه من نعمة إلى أخرى وهذا أيضا فيه عجائب التكوين فمن ذكر للأنعام وذكر النبات والزيتون والنخيل والانتقال إلى ذكر البحار وخيراتها والفلك المشحون يجري فيها، وانتقل سبحانه من البحار وماء الأرض إلى يابسها، وهو يشغل ربعها، فقال عز من قائل:
(وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥)
قلنا إن الجزء اليابس من الأرض هو ربعها والبحار ثلاثة أرباعها، وكانت على هذا الاتساع لتصل أجزاءها، فالبحار يجري فيها الفلك المشحون ناقلة من الشرق إلى الغرب، والشمال إلى الجنوب، وكان جزءًا من الأرض مجهولا لجزئها الآخر، وكلاهما يابس فكشفته جارية في البحر، جرت فاتصلت الأجزاء، والماء سبيل الاتصال.
وبعد أن تكلم سبحانه عما في الماء من خيرات ومنافع يبتغى ويطلب من فضل الله ذكر الأرض اليابسة في مقابل الماء، وذكر الجبال التي جعلها اللَّه سبحانه وتعالى أوتادًا فقال سبحانه: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ)، (رَوَاسِيَ) جمع راسٍ، وفواعل يكون لفاعل إذا كان وصفا مما لَا يفعل كشوامخ جمع شامخ، والرواسي هي الجبال، وقد قال تعالى: (وَأَلْقَى) ومعناها خلق وأنشأ، وجعل، ولكن عبر بـ ألقى، للإشارة إلى أنها ليست من جنس التراب الذي يكون في السفح من حيث قوتها وكونها في أكثر أحوالها حجارة، ولما لها من هذه القوة ولما يبدو أنها ثقيلة كانت كأنها رواسي؛ لأن الراسي هو الثابت المثبت، فكأنها ثبتت الأرض من أن تميد وتضطرب، والمعنى ألقى اللَّه الجبال الراسيات لئلا تميد الأرض وتضطرب، أو خوف أن تضطرب، والمعنى على الحالين أن الرواسي أرستها وثبتتها وقال تعالى: (وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا)، فالأنهار جزء من اليابس، وكذلك السبل في الأرض والصحارى، والمعنى أن اللَّه تعالى جعل في الجزء اليابس من الأرض أنهارا تجري بالماء من مكان إلى مكان رزقا للعباد، ويقول في ذلك ابن كثير: " ينبع في