وهناك تخريج ثالث، وهو الذي ضرب على نغمته الزمخشري، وسار في مساره غيره، وإن خالفوه في النتيجة، وذلك التخريج أنهم يسندون إلى اللَّه وزرهم في الشرك فيقولون: إن شركهم بمشيئة اللَّه وما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن فلو شاء ألا نعبدهم من دونه ما حرمنا، فكيف نحاسب على أمر شاءه اللَّه تعالى، وبذلك يربطون الأمر بالإرادة، فيقولون: إن أمرا يجب أن يكون ملازما لإرادته، ولا يأمر اللَّه بشيء لم يرده، فيقول لهم: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، أي ليس على الرسل إلا البلاغ، وهو تبيين أمر اللَّه تعالى فلا تجادلوا، وأنهم قد بينوا الحق فلا سبيل للتخلص من أمر اللَّه، وأنكم تحسون في ذات أنفسكم بالاختيار وعلى ذلك يكون.
ونقول إن التخريج الأول تكون الآية متناسقة في ألفاظها وعباراتها ومعانيها، والتخريج الأخير يجعل قوله تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وفي ربطه ببقية الآيات تكلف، ولو كان المخرِّج له إمام البلاغة الزمخشري.
وهنا إشارات بيانية ترجح التخريج الأول ونشير إليها:
الأولى - في قوله تعالى: (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، أي فعل ذلك الفعل الذي تفعلون فعل الذين من قبلكم، وهؤلاء لم يفعلوا بل قالوا ولم يقل: وكذلك قال الذين من قبلكم، فدل ذلك على أن ما كان منهم ليس مجرد قول بل هو فعل وهو التحدي أو الاستهزاء، وبذلك يترجح التخريج الأول أو الثاني ولا يترجح الأخير.
الثانية - قوله تعالى: (وَلا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءً)، أي ما حرمنا من غير اللَّه من شيء، بل من ذات أنفسنا.
الثالثة - قوله تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر إذ تقديره إذا كنتم تتحدون وتطلبون إنزال العقاب فليس هذا لنا، إنما علينا البلاغ الواضح المبين الذي لَا يترك ريبة لمرتاب،