حيث يجعل رسالته، وقوله تعالى: (الْكِتَابَ) للدلالة على كمال الكتاب في ذاته، فهو الجدير بأن يسمى كتابا، وليس غيره جديرا بهذه التسمية، وله ذلك الشرف الداني، لأنه يشتمل على كل ما يصلح البشر في معاشهم، ومعادهم وما تقوم به مدنية سليمة فاضلة تنفي خبثها، وتدعم خيرها، وله شرف آخر إضافي وهو أنه منزل من اللَّه العزيز الرحيم الرءوف الغفور الذي رحمته وسعت كل شيء.
هذه صفات ذاتية وإضافية، ومن صفاته الذاتية أيضا أنه لَا عوج فيه، ولذا قال تعالى: (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)، أي أنه سبحانه خلقه متجها إلى الحق من غير انحراف، وأنه كالجسم الذي لَا يعوَّج حسيا، فإن الجسم قد يكون في ذاته مستقيما، ولكن قد يتعرض لبعض الصدمات التي تجعله يسيخ (١) أو ينقبض، وإن هذا القرآن لَا عوج فيه، لَا من وخارجه ولا من أصل تكوينه، فهو كونه قويما ولا يمسه شيء يزيغ أو ينحرف، فهو قويم غير قابل للاعوجاج.
________
(١) يسيخ - هكذا بالخاء - يرسخ. القاموس المحيط (ساخ).
(قَيِّمًا... (٢)
أي أنه مستقيم في ذاته كما أنه لم يعره اعوجاج في أي ناحية من نواحيه، ولا أي معنى من معانيه وهو قيِّم على الكتب السابقة كلها؛ لأنه مهيمن عليها يبين ما نسخ منها، وما لم ينسخ، وما كان فيه تحريف، وما نسي، وما بقي، وهو قيم على مصالح الناس، ودفع مفاسدها، وقيام بنائها الصالح، ومنظم الجماعات الإنسانية على قواعد الأخلاق والفضيلة، وإبعاد المفاسد والرذائل.
وإذا كان لإقامة بناء اجتماعي سليم، وليستقيم الناس في معاشهم ومعادهم، ففيه بيان الأحكام التكليفية لهم وما يجب يوم القيامة، فإن العصاة لَا يستقيمون إلا إذا كان أمامهم عذاب يوم القيامة، قال تعالى: (لِّيُنذِرَ بَأسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ)، أي أن نزوله بما فيه من أخبار البعث والنشور وبما فيه من أحكام تصلح الناس في عامة أمورهم، كان لَا بد أن ينذر بأسا شديدا، والإنذار له مفعولان وهو هنا له مفعولان: أولهما محذوف مع تقديره في الكلام، وهو (الناس)، وثانيهما