أي دعاه دعاء الضارع الخاضع المتوكل، الذي لَا يرجو إلا ربه، وعبر بالنداء لأنه طلب منه، التجأ فيه إليه، وهو طلب لشخصه ولأسرته، وقد كان هذا الطلب في ذاته دعاء وعبادة، كما قال تعالى: (... ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...)، ودعاه في خفاء، ولذا قال سبحانه: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)، و (خَفِيًّا) صفة مبالغة من خفي، أي أنه بالغ في إخفاء دعائه فلا يعلمه قومه، ولأنه مناجاة للَّه وضراعة إليه وهو لَا يلتجى إلا إليه وحده: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ... ). وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥).
وفى هذا إشارة إلى أن الدعاء تضرع وفي الجهر به اعتداء؛ لأنه يكون فيه دعوة لغير اللَّه وشكوى للناس من ربه.
وموضوع النداء، بينه بقوله تعالى عنه.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥)
(وَهَنَ الْعَظْمُ)، أي ضعف، ووهن العظم دليل على وهن الجسم كله؛ لأنه عمود الدين وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته؛ ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه، كذا قال القرطبي في تفسيره (١).
ذكر أولا ما دل على الضعف الحقيقي، ثم ذكر ما يدل ظاهرا على الضعف، وهو أنه يعلوه الشيب فقال: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ) الاشتعال الانتشار، و (شَيْبًا) تمييز محول عن الفاعل، والمعنى اشتعل شيب الرأس، أي انتشر الشيب فيه، والاشتعال مع أنه بمعنى الانتشار إلا أنه غلب على انتشار النار.
وهنا نجد ثمة استعارة، فقد شبه انتشار بياض الشيب باشتعال النار، إذ يكون الشيب عند انتشاره لامعا كوهج النار، ولأن فيه إفناء الشعر الأسود، كما تحرق
_________
(١) الجامع الأحكام القرآن: ١١/ ٧٣