الحواس، أي وحاستك سليمة، ولماذا كانت العلامة الدالة على وفاء اللَّه ببشراه وتنفيذها بالفعل هي حبسه عن الكلام ثلاثة أيام متتابعة، وهو سليم الحواس، تلك إرادة اللَّه تعالى ولا يعلم إرادة اللَّه إلا اللَّه سبحانه وتعالى، وقد نتلمس معرفة بعض أسرار ذلك الحبس فنقول إنه سبحانه وتعالى قد أراد به العتب، لذكر غرابة البشرَى، وقد يكون إعفاءً لزكريا وامرأته من لجاجة القول عند الفضوليين من الناس، وقد يكون للانصراف إلى العبادة والعكوف في منزله أو المسجد الأقصى، قد يكون لذلك أو لغيره، والعلم عند اللَّه العليم الخبير. ولما تأكد مجيء الولد وكان على وشك المجيء، كان التسبيح والتكبير هو شكر للَّه تعالى، وكان ذلك منه ومن قومه؛ لأنه ليكون لهم ولي لزكريا، له حنانه وعطفه ومحبته، ولذا قال تعالى:
(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
(الْمِحْرَابِ) هو المصلَّى، ويظهر أنه كان يلازمه عندما وعده ربه أو كان قربيا منه دائما، ولذا كان خروجه مبتدأ منه، وسمي المصلَّى محرابا؛ لأنه يحارب الشيطان بلزومه فهو مشتق من المحرب، أو يحارب التعب ويأنس فيه باللَّه والقرب منه، فيكون مشتقا من الحرب والتعب وجهاد النفس.
ومهما يكن اشتقاقه فهو أشرف مكان خرج على قومه منه وأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا، (فَأَوْحَى) أي أشار إليهم، وكأنه كان إلى محبوس اللسان، كما يدل على ذلك مخاطبته لفومه بالإشارة والرمز، وقد كان هو في ذكر دائم، كما قال تعالى: (... وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِي وَالإِبْكَارِ).
وقد دعا قومه للمشاركة في هذا بالإشارة لشكر اللَّه تعالى لما تأكد من العلامة أن اللَّه تعالى وهبه الولد الذي يكون وليا.
والتسبيح: التقديس، والتسبيح في العشي والإبكار يفيد أنه تسبيح طوال النهار وطرفا من الليل، وكانت دعوة قومه للتسبيح معه؛ لأنه ذلك الولي الذي


الصفحة التالية
Icon