قال اللَّه تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦)
الخطاب للنبي - ﷺ -، والكتاب هو القرآن الكريم، فهو الكتاب الكامل الذي إذا ذكرت كلمة الكتاب انتهت إليه، فهو الجدير وحده بأن يسمى الكتاب؛ لأنه كامل في نسبته إلى اللَّه تعالى، إذ هو خطابه لعباده، وكامل فيما اشتمل عليه من إعجاز، وكامل فيما اشتمل عليه من شرائع وحكم ومواعظ وقصص.
(إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) النبذ: الطرح والرمي، وانتبذ معناه نبذه نبذا شديدا، والمعنى أنها اعتزلت الناس ونبذتهم، وانفردت لعبادة اللَّه وحده، لا تأنس إلا به، ولا يعمر قلبها إلا بذكره، والمعنى انفردت من أهلها (مَكَانًا شَرْقِيًّا)، أي انفردت من أهلها في مكان شرقي بيت المقدس الذي كان فيه محرابها، ومحراب كافلها زكريا - عليه السلام -، وكان وراء هذا الانفراد أن اتخذت حجابا يحول بينهما.
ولذا قال تعالى:
(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا... (١٧)
والفاء للترتيب والتعقيب، أي أنه صاحب الانتباذ أو أعقبه أن اتخذت حجابا من دونهم يحول بينهم وبينها، فلا يرونها في عزلتها، ولا تراهم، وذلك إحكام للعزلة التي أرادتها بإلهام من اللَّه تعالى، لتكون أما لعيسى، وقد كانت في هذه الخلوة الروحية على استعداد لتلقي أمر ربها، وقد قال تعالى في الاصطفاء في السورة آل عمران مخاطبا لها بالوحي، أو بالإلهام الروحي: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣).
في هذه الخلوة الروحية التي كان يتحدث فيها الملائكة، كان لقاء جبريل الأمين لها، ولذا قال تعالى: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)، الروح هو جبريل، وقد عبر عنه بروح القدس، وأضيفت الروح إلى اللَّه؛ لأنه خالقها؛