ولأنه المختص برسالته إلى خلقه، وكذلك كان التعبير في قوله تعالى:
(... فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا...)، أي جبريل الأمين، والفاء للترتيب، أي أنه بعد أن اتخذت حجابا بينها وبين الناس منتبذة دونهم مكانا شرقيا، أرسلنا إليها في هذه الخلوة الروحية جبريل، فتمثل لها بشرا سويا، أي ظهر لها في صورة رجل سوي مستوي الخلق والتكوين حسن الصورة، وقد جاءها كذلك، لأن البشر لَا يرون الملك من الملائكة إلا على صورة البشر، قال تعالى:
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)؛ لأن البشر بحالهم البشرية لَا يستطيعون أن يروا ملكا وهو في صورته الروحية.
فوجئت البتول مريم - وهي في مكان قصي شرقي قد انتبذت الناس، واتخذت من دونهم حجابا - بصورة رجل من البشر يدخل عليها ولا تدري من أين جاءها، وقد سدت الأبواب، وقام الحجاب، وفي الفزع من المفاجأة، قال اللَّه عنها:
(قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨)
أي ألجأ إلى اللَّه تعالى منك حذرة خائفة، وذكرت اللَّه تعالى بوصف الرحمن كأنها تستغيث من الناس برحمة اللَّه تعالى، وأنها في هذه الساعة تلجأ إلى رحمة الرحمن الرحيم، ثم تتجه إلى الذي دنا منها مستنجدة بتقواه، فتقول: (إِن كُنتَ تَقِيًّا)، طاهرا متصونا مرجوا تخاف اللَّه تعالى وتخشاه، فهي تلجأ إلى الرحمن، وتحثه على أن يخافه ويتقيه، ويكون امرءا يخاف عذابه ويرجو ثوابه، هنا يتقدم الملك الذي تمثل بشرا سويا يعلن حقيقته ومهمته، وأنه ما جاء لينال منها شرا وأن ما سبق إلى وهمها ينفيه نفيا قاطعا، ويزكيها ويقوي اصطفاء اللَّه تعالى كما جاء في سورة آل عمران:
(قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) (١)
________
(١) راجع سورة آل عمران من هذا التفسير المبارك.