فنفت لذلك السيدة البتول بذلك الزواج، وأن تكون قد زفت لبشر، وأنها لم تكن تبتغَى من الرجال، وهذا موضع استبعادها مأسورة بحكم الأسباب العادية، وقد سيطرت النظرية التي تفرض الأسباب والمسببات في كل الوجود.
وقد رد اللَّه سبحانه وتعالى قولها بأنه سبحانه أراد ذلك، وإرادته فوق الأسباب، ولذا قال تعالى:
(قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١)
(قَالَ): أي جبريل، (كَذَلِكِ) خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك، قد تقرر في علم اللَّه المكنون وقدره المحتوم، فلا تغيير فيه استبعدتيه أو لم تستبعديه، (قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، أي قال ربك الذي خلقك ولم تكوني شيئا وكلأك وحماك وربَّاك واصطفاك على نساء العالمين؛ لهذه الخاصة التي منحك اللَّه تعالى إياها، هو على اللَّه هين؛ لأنه يكون أي شيء في الوجود بقوله تعالى: (... كن فَيَكُونُ)، فليس خلق شيء بعزيز على اللَّه خالق لَا شيء (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ) " الواو " عاطفة على فعل محذوف يفهم من الكلام (هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ) فثبتت قدرتنا الكاملة في تغير الأسباب العادية ومسبباتها، وإن إرادتنا لا يقيدها شيء، وأنه سبحانه الفعال لما يريد، (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ)، الضمير يعود على الغلام، والآية هي الدلالة على قدرة اللَّه تعالى المطلقة على خرق الأسباب والمسببات، فأي دلالة أقوى في الدلالة على أن اللَّه تعالى فعال لما يريد، لَا تتقيد بالأسباب والمسببات، كما يتوهم الفلاسفة ومن يلف لفهم ويسير في دروبهم.
(وَرَحْمَةً مِّنَّا)، أي أن ذلك الغلام سيكون آية دالة على كمال القدرة الربانية وسيكون رحمة منا؛ إذ نبعثه بالرحمة والرأفة والتسامح الإنساني.
ويقول سبحانه في بيان أن ذلك أمر محتوم (وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) قررنا [بحتمه]، وفي حدود قدرتنا، ونفذناه بحكمتنا العالية التي لَا تعلو إليها مدارك البشر، إنه هو العليم الخبير السميع البصير.