لتأكيد الوقوع؛ ولأن الأزمان عند اللَّه واحدة، لا فرق فيها بين ماض وقابل، فكلها في علم اللَّه تعالى واحد، ولكن كون بعضها ماضيا وبعضها قابلا إنما هو بالنسبة لعلمنا نحن وحدنا، فاللَّه في علمه المكنون ألهم عيسى - عليه السلام - في المهد أن ينطق بهذه الأمور على أنها واقعة وهي ستكون لَا محالة.
أول قول لعيسى في المهد:
(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ابتدأ بإظهار العبودية للَّه سبحانه وتعالى، وكأنه - عليه السلام - يرد على الذين أخرجوه من مرتبة العبد الخالص الزكي الطاهر إلى مرتبة الألوهية، وهو لن يستنكف أن يكون عبدًا للَّه. والثاني: أنه آتاه كتابًا يدعو الناس إلى اتباعه، وهو التوراة والإنجيل فهو يدعو إلى العمل بهما، والثالث أنه جعله نبيا. وهذا الجَعْل في علم اللَّه تعالى أكَنَّه إلى أن يبلغ من ينبأ ويحمل رسالة، وهو بالنسبة لنا هذا الوقت الذي قاله إخبار بالماضي للدلالة على مؤكد في المستقبل.
والكتاب ذكر بالتعريف بـ (أل)، وقد أشرنا إلى أنه التوراة والإنجيل، فإن الإنجيل لم ينسخ التوراة، ولكن نسخ بعض أحكامها، وما يغاير فيها لَا يؤخذ به، وما لم ينص عليه فيها يؤخذ بأحكامها.
وقد بين عيسى - عليه السلام - على لسانه وهو في المهد أنه سيكون مباركا، فقال تعالى عنه:
(وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) المبارك النافع الهادي المرشد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والداعي إلى الحق والتنزيه، وقد كان عيسى - عليه السلام - واضح البركات: كان يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن اللَّه ويحيي الموتى، وينادي الموتى فيخرجون من قبورهم وأنزل اللَّه تعالى على يديه المائدة من السماء، على أن تكون عيدا لأولهم وآخرهم، فأي بركة أعظم يعطاه مبارك؟!.
ثم قال: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَاة مَا دُمْتُ حَيًّا)، الإيصاء: الأمر المؤكد الواجب الاتباع أوصاه اللَّه تعالي (بِالصَّلاةِ)، ويكنى بها عن إصلاح نفسه


الصفحة التالية
Icon