لم يرم أباه بالجهل، وقد منعه الخُلُق الودود من ذلك، بل قال له (جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ)
والمعرفة (مَا لَمْ يَأْتِكَ) فتعفف عن أن يرميه بالجهل، وتعفف عن ادعاء العلم الكامل حتى لَا يكون مستطيلا بفضل علمه على أبيه ومستعليا عليه، بل قال: (مِنَ الْعِلْمِ)، أي بعض العلم، وذلك يجعلني أدعوك إلى الحق، وذكره العلم داع لأن يتبعه؛ لأن الأب الرفيق العاطف يحب لابنه العلم، ولو كان أعلى منه، وإذا كان له بعض العلم الذي يسره، ولا يضره، فإنه يتبعه، ولذا قال: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) " الفاء " هنا تفصح عن شرط مقدر تقديره: إذا كنت قد أوتيت هذا العلم فاتبعني أهدك، كما يتبع السائر في طريق لَا يعلمه الرائد الخريت (١) العارف.
والصراط: الطريق كما ذكرنا، والسوي: المستوي الذي لَا عوج فيه ولا أمت، وقد قال الزمخشري في هذا النداء من ذلك الابن البار بأبيه: " ثنى -عليه السلام - بدعوته إلى الحق مترفقا متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهبني وإياك في سير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجيك من أن تضل وتتيه ".
وبعد أن نبه إلى أنه لَا يليق أن يعبد ما لَا يسمع ولا يبصر وأمره باتباعه؛ لأنه بين له أن هذه الضلالة وهي عبادة ما لَا ينفع ولا يضر عبادة للشيطان عدو آدم وذريته فقال:
________
(١) الخَرِّيت: الدليل الحاذق بالهداية والدلالة (فى الطريق). لسان العرب - القاموس المحيط.
(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤)
ناداه بالأبوة وكرره تعطيفا وتلطيفا وتقربا، وكان النهي (لا تَعْبُد الشَّيْطَانَ) وعبادة الشيطان في أنه أطاع غوايته التي توعد بها عباد اللَّه فقال: (... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، فطاعته في معنى عبادته، ولأن


الصفحة التالية
Icon