ناداه أيضا نداء المتلطف المتحبب المدني ما بينهما (يَا أَبَتِ) قال مفرطا في شفقته وإن لم يكن في شفقة الابن على أبيه إفراط قط، وخصوصا في مقام الحرص على نجاته، قال: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ)، هنا إشارات بيانية، إذ الظاهر إصابته بالعذاب المقرر للمشركين، وهو أن يدخل الجحيم، ولكنه أولا عبر بالمس، وكأنه لَا يريد التهويل على نفسه وعلى أبيه بأنه سيصيبه العذاب لذلك الشرك، والشرك ظلم عظيم، هذه هي الأولى، أما الثانية أنه ذكر أن العذاب كان من الرحمن. إنه كان ممن من شأنه الرحمة، ولكنه آثر الطريق المعوج فكان العذاب، والثالثة أنه يخشى عليه من أن ينهمك في المعاصي فيكون وليا للشيطان في الدنيا، ويكون قرينا له في الآخرة، وكأنه كان مخيرا بين ولاية الرحمن ورحمته، وشقوة الشيطان وولايته فاختار ولاية الشيطان وصار وليه وساء قرينا.
وكانت عبارته في التخويف في أدب، ولم يصرح بالعقاب الشديد، وإن نبه إليه في شدة، بأنه سيكون وليّ الشيطان وقرينه، وبئس ولايته، وأن يكون له قرينا.
أجاب أبوه إجابة المحنق المغيظ لمحاولته ترك عبادة الأوثان وملته وملة آبائه، فقال كما قال تعالى عنه:
(قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)
(أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ)، هذا استفهام إنكاري توبيخي من ذلك الأب المخبط وكان موضوع التوبيخ هو انصرافه عن آلهته وبعد عنها، وكأنَّه كان يجب أن يكون مثله منغمرا في ضلال، وهو بذلك يضرب صفحا عن كل ما قاله، ويقول بلسان الحال: سمعنا وعصينا وينقلب عليه بالتوبيخِ عن تركه له ولملة آبائه المشركين، وقد أكد التوبيخ بالتأكيد بالضمير بقول: (أَنت) وفي ذلك تأكيد التوبيخ استصغارا لشأنه، وما كان صغيرا، بل كان الكبير بإدراكه وبدعوته إلى الوحدانية، وهو يستنكر أن يرغب عن آلهته، ولم يتعرض لما يدعو إليه ويرغب فيه، وكأنه معرض عنه وعن أدلته وآياته.