وإن موسى كان يضيق ذرعا بكل من يخالفه: ولعل ذلك لأنه نشأ ونما في قوم مقهورين يُقتل أبناؤهم، وتُستحيا نساؤهم، ومن التربية الأولى في بيت فرعون، ولأنه كان يحس بأنه وقومه مظلومون، (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩).
ونفس موسى الكليم الشفافة أدركت عيوبها فطلب من ربه أن يبرئه منها عالما أنه سيلقى من فرعون عنتا، ولابد أن يلقاه بقلب قوي غير ضجر، ولا سائم، ليتحمل ما حمله، فطلب أن يشرح صدره بجعله قادرا على احتمال المخالفة، بل المعاندة والمهاترة فقال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي).
الأمر الثاني - أنه أحس بأنه مقدم على أمر خطير جسيم ليس هيِّنا لينا، هو مجابهة فرعون جبار الدنيا، وطاغية عصره، فطلب أن يسهل أمره معه فقال:
(وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦)
أي اجعل الأمور ميسرة أمامي، وإضافة الأمر إليه أي الأمر الذي كلفتنيه، وهو لقاء فرعون فإن كان الطلب الأول خاصا بشخصه، فالثاني خاص برسالته التي حملها، وكلفه الله إياها. وقد اتجه من بعد ذلك إلى الأداة التي يكون بها التبليغ، هو اللسان، ولذا كان الطلب الثالث وهو الذي عبر عنه بقوله:
(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)
العقدة ألا ينطلق اللسان بالقول الفصيح الصحيح، ويقول أكثر المفسرين إنه كان في لسان موسى رتَّه، وقد وصفه فرعون مستهينا به مستنكرا أن يكون هو الرسول عن الله تعالى: (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ)، وقد طلب موسى طلبا يسيرا أن يحل عقدة قائمة من لسانه،