وقوله تعالى: (ثمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ) العطف بـ " ثم " يفيد أنه بين الوعد وصدقه شدائد كثيرة نزلت بالأنبياء من رد وعناد واستهزاء وسخرية وإيذاء، كما قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)، فكَان العطف بـ " ثم " مشيرًا إلى هذه الشدائد، وأنه لم يتبين صدق الوعد إلا بعد شدائد ذاقوها، ولم تهز ايمانهم، ولم توجد في قلوبهم يأسا من صدق وعد الله.
ثم قال تعالى: (فَأَنجَيْنَاهُمْ) " الفاء " تدل على أنه يجيء فور صدق الوعد الإنجاء للرسل، والإنجاء يشير إلى تضافر القوى ضدهم، (وَمَن نَّشَاءُ) هم التابعون للأنبياء الذين آمنوا بما جاءوا، وقد شاء الله تعالى إيمانهم لأنهم اختاروا الهدى، وقد عبر الله تعالى عنهم بقوله ومن نشاء للإشارة إلى أنهم آمنوا؛ لأن اللَّه تعالى شاء لهم الإيمان، وكل شيء في محيط مشيئته وإرادته، فلا يقع شيء إلا إذا تعلقت به مشيئة الله ولا يخرج شيء في الوجود عن إرادته.
(وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) وهم الذين خالفوا النبيين وعاندوهم ولم يؤمنوا، وكفروا بأنعم الله، وعبر الله عنهم بالمسرفين، لأنهم أسرفوا على أنفسهم، وأوقعوها في الضلال بكفرهم برسالة الله، وإسرافهم في العناد وإيذاء المؤمنين وإسرافهم في ضلال العقل وعدم الإذعان لأي حجة أو برهان، وإسرافهم في المعاصي، وهي إفساد، والله لَا يحب المفسدين.
وإن الله تعالى أهلك المسرفين المفسدين دائما، ولكن بعد أن يرسل النذر، وقريش اختصت بكتاب فيه علمهم وذكرهم وشرفهم؛ ولذا قال عز من قائل:
(لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠)
أكد سبحانه نزول الكتاب من عنده إليهم بـ " اللام " التي تفيد التوكيد، و " قد " التي تفيد التحقيق، وكان التأكيد لأصل ما يعود به عليهم ذلك الكتاب العظيم؛ ولذلك قال تعالى في هذا الكتاب (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) هذا من إضافة المصدر للمفعول، أي فيه تذكير لكم بالحق والمواعظ والأحكام الشرعية العادلة التي تنظم العلاقات بين


الصفحة التالية
Icon