خَلَقْنَاكمْ عَبَثًا...)، ولأن ما ليس له مقصد نافع صحيح يعد لعبا، والعقلاء بعيدون عنه، فالله جل جلاله منزه عنه بالأولى، ولقد صرح سبحانه وتعالى بأنه خلق هذه الأمور لمعرفة الإنسان، وتعريفه بطبائع الوجود وليعرف منها خالقه، وكماله، ونزاهته عن أن يكون كالحوادث؛ إذ هو خالقهم؛ ولذا قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...)، وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وقد بين سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله تعالت كلماته:
(لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧)
(لَوْ) كما يقول النحويون حرف امتناع لامتناع أي امتنع الشرط لامتناع الجواب فهو نفي بدليل، إذ يتضمن شرطها وجوابها بيان امتناع الجواب وامتناع الشرط بتلازم الامتناع فيهما، واللهو ما يشغل عما يعنى به ويهتم له، وهو يعم كل ما يلهي عن الغايات والمطالب، وهو يطلق على الأسباب التي تلهي الإنسان عن الغايات العليا، كالزخارف والطنافس، والسُّقُف المرفوعة المزخرفة، والأثاث والرئْي وغير ذلك مما يعني به أهل الدنيا والسلاطين الذين في لهوهم يعبثون ويلعبون.
ويقول سبحانه: (لَهْوًا) أي ما يلهينا، وذلك مستحيل، لأن الله جل جلاله لا يفعل إلا ما هو كمال، أو يؤدي إلى الكمال وكله خير، وهو معلم الخير، وجواب الشرط (لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا) أي لكان ذلك صادرا عن ذاتنا العليا وصفات الكمال، واللهو لَا يمكن أن يصدر عن ذاتنا المتصفة بكل كمال، والمنزهة عن صغائر الخصال، فكيف يصدر عنا، و (لَدُنَّا) بمعنى " عندنا " ولكنها أخص من " عند "؛ لأنها تدل على الابتداء لنهاية، أي أن اللعب من لدنا مبتدئ، وذلك لَا يسوغ ولا يجوز.
وقال تعالى: (إِن كُنَّا فَاعلينَ) إن هذه الجملة شرطية وجواب الشرط محذوف دلت عليه الشرطية التي قبلها (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخذَ لَهْوًا) وفي ذلك تكلف التقدير، ونحس أنه غير متسق مع النص الأول، وإني أرَى أن (إِن) نافية، وتكون تأكيدا للنفي الثابت بقوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَدُنَّا) ويكون: ما كنا فاعلين ذلك؛ لأنه لَا يليق بالذات الكريمة ولا يتصور أن يكون منها، والله أعلم.